ياسر عرفات الواقعي إلى أقصى الحدود
"تأخّر حزني عليه قليلاً، لأني كغيري توقّعت من سيد النجاة أن يعود إلينا هذه المرّة أيضاً ببداية جديدة، لكن الزمن الجديد أقوى من شاعرية الأسطورة ومن سحر العنقاء". هكذا بدأ محمود درويش رثاء القائد ياسر عرفات. .. رأيت المرثية البديعة مكتوبة في متحف المقاطعة برام الله. هناك حيث حوصر أبو عمّار، تحيط به المدرعات الإسرائيلية، ويطالب بوش الابن باختيار بديل له.
يعرض المتحف حياة عرفات منذ مولده، وكوفيته الفلسطينية الشهيرة، وسلاحه الشخصي، وبذلته زيتية اللون. التفاصيل التي شكلّت صورة الرجل الأسطورة، بمظهره المبعثر مقاتلا مرهقا. يبدو في كل صوره، حتى في القصور والمؤتمرات، كمحارب عاد لتوه من المعركة. لكن أبدع ما في المتحف تلك التجربة القصيرة للحصار. مكتب عرفات، وعليه نظّارته، وغرفته الصغيرة، وحجرة الحرس كلها على حالها. كأنما خرج منها أصحابها للتو. بل إن في حجرة الحرس أسلحتهم، ومن مكبّرات صوت خفية تسمع صوت القنابل وزخات الرصاص. فكأنما الجيش الاسرائيلي يحاصرك هنا. .. كل شيء يبدو حقيقياً، حتى أنك تتوقع رؤية ياسر عرفات يدخل غرفة الاجتماعات ويجلس إلى الطاولة الشهيرة ليلقي خطابه في الظلام وسط الشموع وأضواء الهواتف. وعلى باب غرفة الرئيس عبارة وداع كتبها جند الحرس، بعد أن غادر. .. هذا متحف يقدّم تجربة حية. تجربة مزلزلة.
وهناك، وأنا أقف عند باب حجرة عرفات الصغيرة، في مبنى المقاطعة، في رام الله عاصمة فلسطين الحالية، تنبهت كيف كان لعرفات علاقة ملتبسة بجيلي. الجيل الذي تفتّح وعيه مع الانتفاضة الأولى، وإعجاب العالم بطفل الحجارة. وصوت نزار قباني يهدر: آه، يا جيل الخيانات ../ ويا جيل العمولات ../ ويا جيل النفايات ../ ويا جيل الدعارة ../ سوف يجتاحك/ مهما أبطأ التاريخ/ أطفال الحجارة.
كان ذلك هو الوقت الذي برزت فيه حركة حماس لتحرّض الناس بأن قضية فلسطين إسلامية، وخانتها منظمة التحرير الفلسطينية لتجعلها قضية قومية. على الرغم من ذلك ظل عرفات رمزاً صامداً. لم تهزّه حرب الخطاب الديني. بل بشكل ما كان صورةً بصريةً لفلسطين، كقبة الصخرة.
لكن جيلنا الذي لم يعرف عرفات منذ الستينيات، فجع باتفاق أوسلو. لذلك سهُل عليه أن يحكم على الرجل، الذي كان فلسطين، أنه خان بلاده. وكان مدهشاً كيف كنا نعتبر في الخرطوم أن القضية الفلسطينية هي قضيتنا نحن، التي لا يحق لمنظمة التحرير الفلسطينية نفسها أن تقرّر فيها ما لا يرضينا.
لكن عرفات مضى لما ظن أنه في مصلحة شعبه. لم يمنعه عن ذلك غضب الغاضبين. ولهذا صار بمقدوره أن يعود ليُدفن في البلاد التي عاش لأجلها. احتاج مني تقدير عرفات مرّة أخرى زمناً طويلاً، وشيئا من النضج، ورؤية غرفته الضيقة في مقرّ المقاطعة. .. يصف درويش عودة عرفات: "ألقى النظرة الطويلة الأخيرة على الساحل الفلسطيني المغروز كسيف في خاصرة البحر، ثم نام. تدثر الجسد الخفيف بأرض الحلم الثقيل ونام. لا لينهض كصنم أو أيقونة، بل فكرةً حيةً تحرّضنا على عبادة الوطن والحرية، وعلى الإصرار على ولادة الفجر بأيد شجاعة وذكية".
هناك، وأنا أقف على قبره شعرتُ بأني أفهم. كيف لا تكون كل الأمور مثاليةً كما ينبغي للحكايات الخيالية. وأن الخيارات الصعبة هي قدرٌ لا يمكنك الفكاك منه. مرّت الأسبوع الماضي ذكرى رحيل عرفات. وبعد ما يقارب العقدين، لم نزل نسائل أنفسنا، إلى أي حدٍّ ينبغي أن نكون واقعيين؟