ويلٌ للعرب من شرّ واقع
نُتَخَطَّفُ، نحن العرب، زُرافاتٍ وَوُحدانا. كل شيء يفتك بنا، الأعداء، الأمراض، الفقر، الجوع، الذلّ، الزلازل، الحروب، بل نحن نفتك بأنفسنا أيضاً، عبر الفُرقة والخلاف والقمع والفساد والارتهان للأجنبي وسوء الحوكمة والإدارة، ... إلخ. يبدو واقعنا كمن يكتب الفصل الأخير من تاريخه المديد، أو من سلم أن الاندثار مصيره، أو من رضي بالهوان على أنه قدره. أمَّا ثالثة الأثافي فهي في فريقٍ من العرب يحسَب أنه معصومٌ من الكوارث التي تحلّ بغيره من أشقائه، سواء عنجهية ونرجسية تَفَوُّقٍ يخالها لنفسه، أم لأنه يسير في ركب أعداء أمته ممالئاً لهم، أم تَوَهُماً أن غفلته أو تغافله عن حقيقة ما يُراد بالعرب كأمة سيكفيانه شقاء الاستهداف. لكن، أيّاً من ذلك لا يفيد، إذ إن السكّين قد استلت لتحزّ رقبة الجميع أو تهرسها.
يبدو أننا في حمأة العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة قد نسينا أنه ليس الشعب الفلسطيني وحده من يتعرّض للإبادة عربياً، بل إن شعوباً عربية أخرى واجهت وتواجه المصير القاتم ذاته. ما يجري في سورية بحقّ شعبها لا يقلّ إجراماً ووحشية عمَّا يجري في فلسطين المحتلة. التمزّقات والفواجع في اليمن والسودان وليبيا لا تقلّ فداحة. والمآسي والانتهاكات الواقعة في دول عربية أخرى، من كوارث طبيعية وسفك للدماء وديكتاتورية وفساد وفشل تضفي سوداوية طاغية. إننا نُنْحَرُ بأيدي أعدائنا، كما أننا ننتحر بأيدينا. في قطاع غزّة تبيد إسرائيل الشعب الفلسطيني بدعم وشراكة أميركية – بريطانية – ألمانية كاملة. وفي سورية، يُباد شعبُها بيد نظامه، وبشراكة روسية وإيرانية كاملة. المفارقة أن تدين واشنطن وعواصم الغرب روسيا وإيران جرّاء جرائمهم في سورية، في حين تدين موسكو وطهران الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب لدعمهم جرائم إسرائيل في قطاع غزّة. إنه مزاد دمائنا التي يُساوم عليها لخدمة أجندات خارجية. وكأن بعضنا يأبى إلا أن نكون مشهداً سوريالياً مفتقداً الناظم والمنطق على المسرح العالمي. وكأن بعضنا لا يدرك أن في شعثنا وانقسامنا على ذاتنا وتشتّتنا هلاكنا جميعاً.
غزّة وشعبها ومقاومتها لا يجدون الدعم والنصرة من القريبين والأشقاء، بل أكثرهم لهم خاذلون، إن لم يكن بعضهم متآمرون عليهم
هزّتني عبارة صديق، عمل سابقاً مسؤولاً في الخارجية الأميركية من قبل، وهو من أصول عربية، حين قال لي إن ما يجري في قطاع غزّة، بتواطؤ أميركي وبعض الغرب الإمبريالي، يثير قلقاً لديه أن ثمَّة من حسم أمره أننا، نحن العرب، لا نستحقّ أن نكون أكثر من شعوب مشرّدة مشتّتة، نازحين ولاجئين في ما تبقى من خراب بلادنا أو في أصقاع الأرض أذلّاء بلا هوية ولا أوطان. وأضاف محذّراً إنه قد يأتي يومٌ تجد فيه حتى تلك الدول العربية التي تحسب أنها تملك حصانةً بسبب ثرواتها أو قوتها أو تماهيها مع المواقف الأميركية نفسها في دائرة الاستهداف والتفتيت. وهو محقّ. ففي الأمس، تعرّض العراق للسحق والتدمير، وتحوّل شعبُه إلى مِلل ونِحل ومذاهب وأعراق شتى، وتشرّد كثير منه. وكان لبنان سبقه على هذا الدرب، ولكن بأيدي بعض أبنائه، وكذلك الجزائر. ثمَّ جاءت فواجع سورية واليمن وليبيا والسودان، التي وإن كان لأصابع العبث الخارجي بصمات فيها، إلا أن بعض أصحاب الدار هم مُجرموها الأساس. ووضع مصر ليس أحسن حالاً، إذ اجتمعت عليها وطأتا التحدّيات الخارجية والفشل الداخلي الذريع. وقس على ذلك كثيراً من بلاد العرب.
جاء في الحديث الشريف أن الرسول عليه السلام سأل الله ثلاثاً، فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة. "سألتُه أن لا يهلك أمتي بِسَنَةٍ (عذاب الاستئصال) فأعطانيها. وسألتُه أن لا يسلّط عليهم عدوّاً من غيرهم (أي الهيمنة عليهم وإبادتهم) فأعطانيها. وسألتُه أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها". إذا كان في واقعنا العربي من عبرة فهو أننا لا نُهزم من ضعفٍ وقلة إقدام وانعدام شجاعة ورجولة، وإنما لغياب الرؤية والمشروع والوحدة والإرادة والتعاضد. يكفي أن تتابع تلك المقاومة الباسلة في قطاع غزّة وذلك الصمود الأسطوري لشعبها أمام آلة الدمار الإسرائيلية المسنودة بأعتى القوى الإمبريالية الغربية. لكن غزّة وشعبها ومقاومتها لا يجدون الدعم والنصرة من القريبين والأشقاء، بل أكثرهم لهم خاذلون، إن لم يكن بعضهم متآمرون عليهم. في حين ترى شدّة بأسنا على بعضنا بعضاً، كما في سورية واليمن والسودان وليبيا، نبيد أنفسَنا نيابة عن أعدائنا، وينفخ بعضنا على ألسنة اللهب، وهي لا محالة ستشب في يبس قشّهم، إن عاجلاً أم آجلاً. ويلٌ لنا من هذا الحال إن لم نتدارك أمرَنا.