وما زال الجدل حول ثورة 23 يوليو محتدماً
مرّت قبل أيام الذكرى 71 على اندلاع ثورة 23 يوليو/ تموز. ورغم مرور نحو ثلاثة أرباع القرن، إلا أن هذا الحدث التاريخي الهام ما زال حاضرا بقوة في وجدان الشعب المصري وفي الجدل بشأن أوضاع مصر الراهنة. وتلك حالة تدعو إلى الدهشة وتثير تساؤلات عديدة، وخصوصا أن هذا الجدل ما زال عقيما ولم يسفر بعد عن تقييم موضوعي يصلح لإنارة الطريق أمام الأجيال الشابّة. فما زالت الكتابة عن ثورة يوليو تتسم بقدر كبير من الغلو، إما في تعداد المناقب وتضخيم المنجزات، إلى درجة أن بعضهم ما زال يرى في التوجهات العامة لثورة يوليو مشروعا قابلا لإعادة الإنتاج، أو في تعداد المثالب والحط من الشأن، إلى درجة أن هناك من لا يزال يصرّ على أن ثورة يوليو هي المسؤول الرئيس عن وقوع مصر في الهاوية السحيقة التي توجد فيها حاليا.
تعود هذه البلبلة إلى أسبابٍ موضوعيةٍ عديدة، يتعلّق بعضها بمنهج التقييم نفسه، ويتعلّق بعضها الآخر بطبيعة القوى السياسية والاجتماعية التي استفادت أو تضرّرت منها، فالمتيّمون بها ينظرون إليها من خلال مشروع وطني وقومي قاده جمال عبد الناصر وانتهى برحيله. أما خصومها فينظرون إليها من خلال نظام سياسي أتى بحكم "العسكر" إلى السلطة وما زال قائما. ولكلّ من الفريقين منطقه وحججه التي نتفق مع بعضها ونختلف مع بعض آخر. ومع ذلك، يجب أن يركّز أي تقييم موضوعي لثورة يوليو على ضروة التمييز بين مشروعها ونظامها السياسي، تجنّبا لخلط الأوراق وتحرّيا للدقة في فهم سياقات المواقف والأحداث التاريخية، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لمساعدة الأجيال الشابة على فهم حقيقة ما جرى وتجنّب ما وقعت فيه الأجيال السابقة من أخطاء.
يقصد بمشروع ثورة يوليو مجمل الأهداف والتوجّهات والمواقف التي تبنّتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، إبّان المرحلة التي تولى فيها عبد الناصر مقاليد السلطة، وهو مشرع استهدف، على الصعيد الداخلي، تحرير القرار الوطني من سيطرة رأس المال على الحكم، وبناء جيش وطني قوي، وتحقيق نهضة تنموية شاملة في مختلف المجالات الصناعية والزراعية والخدمية مع ضمان عدالة التوزيع. كا استهدف، على الصعيد الخارجي، تحقيق استقلال القرار الوطني وتحريره من كل مظاهر التبعية للخارج، والسعي إلى تحقيق الوحدة العربية، ومقاومة المشروع الصهيوني والتصدّي لمخطّطاته التوسّعية بكل الوسائل المتاحة.
التقييم الموضوعي لثورة 23 يوليو وزعيمها ينبغي أن يبنى على التمييز بين الأخطاء الناجمة عن سوء التقدير أو الخطأ في الحسابات والأخطاء الكامنة في بنية المشروع نفسه
صحيحٌ أن عناصر هذا المشروع لم تكن جميعها من بنات أفكار ثورة 23 يوليو وحدها، لأن الكثير منها حمل مجمل تطلّعات الحركة الوطنية المصرية التي اشتدّ عودُها بعد ثورة 1919 وجسّدها حزب الوفد، غير أن الفضل في الربط بين مكوّنات هذا المشروع في نسقٍ واحدٍ متكاملٍ يعود إلى ثورة يوليو التي نجحت في تحويله، بالفعل، من مجرّد آمالٍ وتطلعاتٍ طوباويةٍ إلى برنامج عمل خاضت من أجل وضعه موضع التطبيق معارك طاحنة، من أبرزها معركتا تأميم قناة السويس وبناء السد العالي. ولا شك أن حالة النوستالجيا التي لا تزال تشعر بها قطاعات واسعة من الرأي العام المصري والعربي تجاه ثورة يوليو، وتجلّت مظاهرها في مناسبات كثيرة، كان من بينها رفع شباب ثورة يناير صور عبد الناصر في ميدان التحرير، تعكس حجم الارتباط العاطفي بالمشروع السياسي للثورة وبزعيمها عبد الناصر، وهو شعور من الطبيعي أن يزداد حدّة في زمن تبدو فيه مصر (والعالم العربي) في حالة من الضياع وفقدان البوصلة وغياب الزعامة الكاريزمية، بسبب الانبطاح التام أمام المشروع الصهيوني والتبعية للخارج.
قد يقول قائل إن جمال عبد الناصر رحل قبل أن يتحقّق الشيء الكثير من مشروع يوليو الوطني والقومي، وأنه شخصيا يتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية عن أكبر كارثة حلت بمصر وبالعالم العربي في تاريخهما المعاصر، هزيمة 1967، وتلك حقائق لا تقبل الجدل فعلا، غير أن التقييم الموضوعي للثورة وزعيمها ينبغي أن يبنى على التمييز بين الأخطاء الناجمة عن سوء التقدير أو الخطأ في الحسابات والأخطاء الكامنة في بنية المشروع نفسه، فالنوع الأول هو من قبيل الأخطاء البشرية التي قد يقع فيها أي إنسان، وعليه أن يتحمّل عواقبها، وهو ما قام به عبد الناصر فعلا، حين اعترف بمسؤوليته عن الهزيمة، وأعلن تنحّيه عن منصبه، فضلا عن كونها قابلة للتصحيح. أما النوع الثاني فهو من قبيل الخطايا غير القابلة للتصحيح. واستنادا إلى هذا التمييز المنهجي، يمكن القول إن الأخطاء التي وقع فيها عبد الناصر، وهي كثيرة، وبعضها كانت له عواقب وخيمة، لم تشكّك أبدا في نزاهته الشخصية، أو في انتمائه الوطني والقومي، بل ولم تنتقص من ثقة الجماهير فيه واطمئنانها إلى زعامته، بدليل خروج الملايين إلى الشوارع لمطالبته بالعدول عن قراره بالتنحّي، والاستقبال الحافل ألذي حظي به في أثناء مشاركته في قمة الخرطوم عام 1968، ومشهد الوداع منقطع النظير الذي شيعت به جثمانه عام 1970. ومن الثابت تاريخيا أن عبد الناصر كان أول من استخلص دروس الهزيمة، وبادر باتخاذ إجراءات عديدة تؤكّد صدق عزمه على تصحيح ما وقع من أخطاء، فكل الشواهد تدلّ على أن السنوات الثلاث التي عاشها عبد الناصر بعد الهزيمة كانت أكثر سنوات حكمه نضجا وعقلانية، وأن الجهد الجبّار الذي بذله خلالها، خصوصا ما يتعلق منه بإعادة بناء الجيش، هو الذي مهّد للنصر العسكري الذي تحقق في 1973، والذي شاءت إرادة الله أن يرحل قبل أن يتمكّن من قطف ثماره والبناء فوق ما أسفر عنه من منجزات.
أهدرت النخب السياسية في مصر الفرص التي أتيحت أمامها للاتفاق على أسس وركائز نظام ديمقراطي
أما النظام السياسي لثورة يوليو، والذي قام على إلغاء التعددية الحزبية ومكّن لحكم الفرد ولسطوة الأجهزة الأمنية، وأدّى إلى قمع الحريات والسيطرة التامة على المجال العام، فلم يحظ، في حقيقة الأمر، بأي شعبية جماهيرية. صحيح أن عوامل داخلية وخارجية كثيرة، منها اهتزاز صورة النظام الملكي في أعين الجماهير المصرية، بدليل ترحيبها الفوري بانقلابٍ عسكريٍّ سرعان ما تحول إلى ثورة، وتصاعد مد النظم الشمولية في ظل النظام الدولي ثنائي القطبية، وثقة الجماهير المطلقة في شخص جمال عبد الناصر وتنصيبه زعيما للأمة، خصوصا بعد تأميم قناة السويس، طمس الكثير من مثالب هذا النظام الذي لم تتكّشف كل عوراته إلا في ضوء هزيمة 67 المفجعة. وصحيح أيضا أن عبد الناصر يتحمّل مسؤولية شخصية عن أخطاء عديدة إبّان فترة حكمه، ومنها تعيينه عبد الحكيم عامر وزيرا للحربية، ثم أنور السادات نائبا له، غير أن وثائق كثيرة، من بينها محاضر اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، تثبت، بشكل قاطع، أن عبد الناصر كان قد أدرك تماما أن نظامه السياسي فشل في حماية المشروع الوطني والقومي لثورة يوليو، وأصبح عازما على تغيير أسسه والتحوّل نحو نظام أكثر ديمقراطية عقب "إزالة آثار العدوان". لا أقول هذا دفاعا عن عبد الناصر، وإنما تحرّيا لحقيقةٍ يجب أن تبنى على وقائع ثابتة وموثقة، فمع التسليم بأن عبد الناصر يتحمّل المسؤولية السياسية الأولى عن هزيمة 67، إلا أن عبد الحكيم عامر كان أحد المتسبّبين الرئيسيين في وقوعها، وقبل ذلك في وقوع كارثة انفصال سورية عن مصر. ومع التسليم أيضا بأن السادات قاد ثورة مضادّة على مشروع يوليو الوطني، من خلال سياسات الانفتاح الاقتصادي وتحالفه مع الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن النظام السياسي، والذي استمر بعد رحيل عبد الناصر، هو الذي مكّنه من إعادة تشكيل الخريطة السياسية والاجتماعية في مصر والعالم العربي، بما يتناقض كليا مع مشروع ثورة يوليو. وهنا المفارقة الكبرى، فالبذرة التي تسبّبت في انهيار مشروع الثورة غرست في رحم نظامها السياسي، وتعهّدها نائب عبد الناصر نفسه بالرعاية والعناية إلى أتت أكلها في النهاية!
أخلص مما تقدم إلى أن مشروع ثورة يوليو انتهى برحيل عبد الناصر عام 1970، لكنه بقي حيا في نفوس المصريين، لأنه عبّر عن آمال (وطموحات) معظم فصائل الحركة الوطنية المصرية التي تشكّلت في أعقاب ثورة 1919 التي قادها حزب الوفد. ولأن الأخير عجز عن تحقيق هذه الآمال والطموحات، كما عجز النظام السياسي لثورة يوليو عن تحقيقها في ما بعد، يمكن القول من دون أي مبالغة إن الثورة الشعبية الكبرى التي اندلعت في يناير/ كانون الثاني عام 2011 هدفت، في أحد أبعادها، إلى تصحيح مسار ثورة يوليو، من خلال العودة إلى مشروعها الوطني، والتخلص، في الوقت نفسه، من نظامها السياسي، واستبداله بنظام ديمقراطي حقيقي. وإذا كانت ثورة يناير قد فشلت في تحقيق الآمال والطموحات نفسها، إلا أن هذا الفشل لا يعود إلى أن ثورة يوليو هي التي أتت بالعسكر إلى السلطة، كما يدّعي بعضهم، وإنما لأن النخب السياسية في مصر أهدرت كل الفرص التي أتيحت أمامها للاتفاق على أسس وركائز نظام ديمقراطي يمكنه تحقيق هذه الآمال والطموحات.
متى تدرك النخب السياسية المصرية هذه الحقيقة؟ وهل تستطيع تدارك ما فات وتوحيد صفوفها لإجبار النظام الحالي، وهو أكثر طبعات النظام العسكري استبدادا وقمعا في تاريخ مصر الحديث، على إجراء انتخاباتٍ رئاسيةٍ في العام المقبل تتسم بالشفافية والنزاهة؟ أظن أن أمام هذه النخبة فرصة جديدة للتغيير إن أحسنت استغلالها هذه المرّة.