.. وما زالت لفرنسا اليد الطولى في أفريقيا

14 فبراير 2022
+ الخط -

من مالي والسنغال إلى النيجر وتشاد، شهدت منطقة جنوب الصحراء خلال السنوات الأخيرة، غليانا شعبيا ضد الوجود الفرنسي، وعبّرت عنه مظاهراتٌ أُحرقت ومُزقت فيها الأعلام الفرنسية، ورُفعت شعارات "فرنسا ارحلي"، "تسقط فرنسا"، "الموت لفرنسا". يبدو أن جزءًا من شعوب المنطقة ونخبها قد ضاق ذرعا بفرنسا وحروبها وهيمنتها، فارتفعت مطالب إخراجها والتحرّر من قبضتها. تقود سلطات مالي هذه المعركة، لكن النظام الذي أسّسته فرنسا في مستعمرات جنوب الصحراء الكبرى يجعلها تعود من النافذة كلما خرجت من الباب. 
بعد أسبوعين من تسلّمها مفاتيح القاعدة العسكرية الفرنسية في تمبكتو، طلبت سلطات باماكو من باريس مراجعة اتفاقيات الدفاع بين البلدين، بما في ذلك اتفاق 2013 الذي يمنح القوات الفرنسية حرية مطلقة بحجة التعاون العسكري في "الحرب على الإرهاب"، حتى أصبح الجيش المالي مضطرّا لطلب موافقتها للتحليق في أجواء شمال البلاد، حيث تقود فرنسا تحالفا دوليا في عملية تاكوبا (قوات أوروبية خاصة بقيادة فرنسا، تهدف إلى تدريب قوات من مالي والنيجر وبوركينا فاسو).
أرسلت سلطات باماكو رسائل أخرى إلى فرنسا وحلفائها، مفادها بأن قواعد اللعبة قد تغيرت، إذ رفضت السماح لطائرة عسكرية ألمانية عبور المجال الجوي المالي، ومنعت طائرات بعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما) من الإقلاع، وأبقتها رابضة في قواعدها، كما طلبت من الدنمارك سحب قواتها الخاصة التابعة لعملية تاكوبا. خطوات غير مسبوقة في تاريخ مالي الحديث، تلتها ضربة موجعة لم تكن في حسبان فرنسا عند تلقيها خبر طرد السفير الفرنسي من البلاد. 

التعاون الإجباري الذي فرضته باريس على مستعمراتها جنوب الصحراء مكّنها من مواصلة استعمارها بواسطة وكلاء محليين راحت تكوّنهم وتنصّبهم

لم يكن في وسع سلطات مالي الوقوف في وجه فرنسا، لولا استقواؤها بموسكو، وتسلّحها بطائراتها وعزمها على الاستعانة بمجموعة فاغنر الروسية. وفي بوركينا فاسو المجاورة، قبل أن ينقلب المقدّم بول هنري داميبا على الرئيس روش كابوري، حاول إقناعه بالاستعانة بدوره بمجموعة فاغنر للسيطرة على الجماعات المسلحة. بعد مالي وبوركينا، تتجه الأنظار نحو النيجر، حيث وقعت روسيا اتفاق تعاون سياسي واقتصادي وأمني، مكّن نيامي من اقتناء سلاح روسي هي الأخرى، ما زاد من قلق باريس. يبدو أن قادة المنطقة يراهنون على تقدّم روسيا، وخلفها الصين، في كلّ شبر تتراجع فيه القوات الفرنسية في أفريقيا، مثلما ملأت الفراغ الذي تركته أميركا في سورية.
صحيحٌ أنه لم يعد مُرحّبا بفرنسا في مالي تحديدا، لكن ما زالت لها اليد الطولى في المنطقة، فحين هبّت رياح الاستقلال في المستعمرات الفرنسية جنوب الصحراء، تظاهرت باريس بانحنائها للعاصفة، وفرضت شروطا تستجيب لرؤية استعمارية عبرّ عنها الرئيس شارل ديغول وقتها: "مصالحنا تكمن في حرية استغلالنا للنفط والغاز الذي اكتشفناه والذي سنكتشفه مستقبلا". وتتلخّص هذه الرؤية النيوكونيالية في رسالةٍ وجّهها رئيس الوزراء آنذاك، ميشال دوبري، إلى السياسي الغابوني ليون مبا، حوالي شهر قبل "استقلال" الغابون في أغسطس/ آب 1960: "نمنحكم الاستقلال، شرط أن تلتزم الدولة بعد ذلك باحترام اتفاقيات التعاون التي ستوقعها قبل نيلها الاستقلال. هناك منظومتان تدخلان حيز التنفيذ في الوقت ذاته: الاستقلال واتفاقيات التعاون. لا تعمل الواحدة بمعزل عن الأخرى". 
التعاون الإجباري الذي فرضته باريس على مستعمراتها جنوب الصحراء مكّنها من مواصلة استعمارها بواسطة وكلاء محليين راحت تكوّنهم وتنصّبهم، ولا تتردّد في إطاحتهم عند الضرورة، أو حتى اغتيال من تجرّأ منهم على تحدّيها. عسكريا، مكّنتها هذه الاتفاقات من تولّي مهمّة تدريب الجيش، وبيع السلاح والإمدادات العسكرية، والتدخل للسيطرة على أي تهديد داخلي أو خارجي لأنظمتها الأفريقية، بلغ حدّ مشاركتها في إبادة التوتسي في رواندا، دفاعا عن نظام الرئيس جوفينال هابياريمان في وجه ما وصفه الرئيس فرنسوا ميتران بـ "الغزو التوتسي الأنغلوساكسوني"، بقيادة بول كاغامي.

حين فرض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي سياسات إعادة الهيكلة في المنطقة نهاية التسعينيات، كانت الشركات الفرنسية من أكبر المستفيدين من موجة الخصخصة

وسمح "التعاون الأمني" لفرنسا بأن تزرع في عواصم مستعمراتها المستقلة خلايا تجسّس أسمتها "مركز الاتصال والاستخبارات"، أوكلت لها مهمة تدريب أجهزة المخابرات المحلية ومراقبة أنشطة رئيس الدولة على مدار الساعة. ومن باب التعاون العسكري الإجباري أيضا، أنشأت قواعد في كل من جيبوتي والسنغال وساحل العاج والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى، ما سهل لها القيام بحوالي 40 تدخلا عسكريا علنيا إلى حدود 2014، حسب مجلة نيوزويك الأميركية. وما خفي أعظم في اتفاقاتٍ تحيط السرية بجلّها، على الرغم من بعض التسريبات الإعلامية من حين إلى آخر. وبفضل هيمنتها العسكرية، وتواطؤ النخب الأفريقية الحاكمة، استطاعت الشركات الفرنسية أن تجني ثمار "التعاون الاقتصادي"، الذي تحوّل، مع الوقت، من الاستغلال الحصري لمواردها وأسواقها إلى امتيازات تفضيلية، تحت ضغط العولمة والتنافس الدولي على أفريقيا، تقوده الصين بصمتٍ وإصرار. وحين فرض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي سياسات إعادة الهيكلة في المنطقة في نهاية التسعينيات، كانت الشركات الفرنسية من أكبر المستفيدين من موجة الخصخصة.  
ويصعب الحديث عن تمتع هذه الدول بالحد الأدنى من السيادة، في ضوء نظام "التعاون المالي" الذي يجبر 14 دولة أفريقية في "منطقة الفرنك الأفريقي" على إيداع نصف احتياطها النقدي لدى الخزانة الفرنسية بحجّة ضمان الإبقاء على السعر الثابت لليورو مقابل الفرنك، ولا يسمح لها هذا النظام بالوصول إلى أكثر 15 % من إيداعاتها في السنة. وإن احتاجت للمزيد، فتُقرضها الخزانة الفرنسية، غالبا من الإيداعات الأفريقية ذاتها، بنسبة 20%. هكذا جنت باريس ثروة طائلة في منطقة الفرنك التي تتكون من مجموعة في غرب أفريقيا تضم بنين، بوركينا فاسو، ساحل العاج، مالي، غينيا بيساو، النيجر، السنغال وتوغو، ومجموعة ثانية في وسط أفريقيا، وتضم الكاميرون والكونغو والغابون وغينيا الاستوائية وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى.

لو كانت باريس تنوي إحداث أي تغيير في علاقتها مع منطقة الفرنك الاستعماري، لأدمجت مجموعة الفرنك في وسط أفريقيا أيضا

سارع الإعلام الفرنسي في نهاية 2019 إلى التطبيل إلى توصيل باريس ودول منطقة الفرنك في غرب أفريقيا إلى اتفاق حول "مشروع إصلاح الفرنك الأفريقي"، ليتضح أن الاتفاق جرى في سرّية تامة بين الرئيسي الفرنسي ماكرون ورئيس ساحل العاج الحسن وتارا، الرئيس السابق "للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا". صعق خبر الاتفاق باقي دول منطقة الفرنك التي لم تجر استشارتها ولم يُطرح المشروع للنقاش على قادتها وبرلماناتها وشعوبها، وإلى اليوم، لم يُعرض المشروع للتصويت إلا على البرلمان ومجلس الشيوخ في فرنسا وبرلمانَي ساحل العاج وتوغو.
ولم يُنشر نصّ المشروع إلا بعد مرور 14 شهرا على إعلان "الاتفاق"، ليتضح أن الإصلاح المزعوم هو مجرّد ذر رماد في عيون بعضهم، ومحاولة لتجميل ثلاثة ملامح للفرنك الأفريقي وأكثرها قبحًا، خصّ أولها مشروع تغيير اسم العملة من الفرنك إلى إيكو، الذي لم يجر اعتماده بعد، وركّز التعديل الثاني على انسحاب فرنسا من "البنك المركزي لدول غرب أفريقيا" مع احتفاظها على حق المشاركة في تعيين رئيس البنك والسيطرة على البنك في حال وجود "أزمة"، وغيرها من تدابير تضمن استمرار سيطرة باريس على كل ما يجري داخله. أما التعديل الثالث فيتعلق بإلغاء إلزامية الإيداع النقدي، ويحيط بهذا التعديل غموض وتحايل كثيران أيضا. 
لم يمسّ مشروع التعديلات جوهر العلاقة النقدية الاستعمارية، إذ أبقى على ربط "فرنك غرب أفريقيا" وتحديد سعر صرفه الثابت بعملة اليورو، وحافظ على وضع فرنسا باعتبارها ضامنةً  لتحويل "إيكو" إلى اليورو، بما يخدم مصالحها التجارية. ولو كانت باريس تنوي إحداث أي تغيير في علاقتها مع منطقة الفرنك الاستعماري، لأدمجت مجموعة الفرنك في وسط أفريقيا أيضا، لكنها تجنّبت ذلك، واستهدفت فقط الدول الثماني لمنطقة الفرنك في غرب أفريقيا، التي تنتمي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس). كلمة السرّ تكمن في اسم العملة ذاتها، "إيكو"، وهي الحروف الأولى لمجموعة إيكواس التي تهيمن عليها فرنسا سياسيا، وتعمل على إحكام قبضتها عليها، ماليا أيضا.

ما زال لفرنسا نفوذ في القارّة السمراء، وسيظل الحال على ما هو عليه في منطقة الفرنك الاستعماري، ما لم تضع هذه الدول حدّا لاتفاقات التعاون الإجباري

بينما يُنظّر بعضهم لتراجع فرنسا في القارة الأفريقية، تعمل باريس، بواسطة وكلائها الفرانكفونيين، على التوغل أكثر، وتسعى إلى اعتماد مشروع عملة "إيكو" من كل دول الإيكواس الـ 15، بما فيها الدول السبع غير الناطقة بالفرنسية: نيجيريا وغانا وغينيا وغامبيا وليبيريا سيراليون والرأس الأخضر. بعد أن اندفع قادة هذه الدول، وأعلنوا عن رغبتهم في اعتماد عملة صُمّم اسمها على اسم منظمتهم، الإيكواس، أجّلوا الخطوة إلى حين توصّلهم إلى اتفاق حولها، وأبدت نيجيريا تحفظا حول ارتباطها بفرنسا، في دور الضامنة  لتحويل "الإيكو" إلى اليورو. 
صحيحٌ أن فرنسا لم تعد الآمر الناهي في كلّ مستعمراتها الأفريقية، وأن التنافس الدولي المحتدّ في القارّة السمراء أفقدها حصّة من أسواقها، لكن نفوذها ما زال يمتد إلى أبعد من مستعمراتها، وبدا ذلك واضحا في الضغوط التي مارستها على "الإيكواس" حتّى فرضت حصارا ماليا وتجاريا على مالي في مطلع العام الجاري، أيده الاتحاد الأوروبي وأميركا، ولولا معارضة روسيا والصين، لتوّجت العقوبات بمباركة أممية.  
ما زال لفرنسا نفوذ في القارّة السمراء، وسيظل الحال على ما هو عليه في منطقة الفرنك الاستعماري، ما لم تضع هذه الدول حدّا لاتفاقات التعاون الإجباري، وتبتعد عن تداول السلطة عبر الانقلابات، وتفرز نخبا لا تردّد مقولة الدكتاتور عمر بانغو، رئيس الغابون الراحل: "أفريقيا بدون فرنسا كسيارة بدون سائق".

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري