وعود قيس سعيّد العالقة

27 سبتمبر 2023
+ الخط -

يعدّ الوعد من مكوّنات الخطاب السياسي، فهو فعل لغوي وعمل اتصالي، يؤسّس لعلاقة مباشرة بيْن الباثّ والمتلقّي، قوامها التزام المتكلّم بتحقيق مشروع ما، يتشوّف إليه المتقبّل، وتحويله من حلم إلى واقع. والوعد في السياق السياسي فعل تعبيري، يحمل طيّه رسالة إيجابية، ووظيفة تأثيرية باعتباره يخاطب آفاق انتظار الجموع، ويقصد استتباعهم وتأليفهم حول زعيم ما أو حزب ما وبرنامجه السياسي. وهو إلى ذلك بمثابة عقد أخلاقي بين الفاعل السياسي والجمهور. فكلّما جدّ الواعد في تحقيق وعوده وتحويلها إلى منجز عملي، تزايدت شعبيّته، وارتفع منسوب ثقة الناس فيه، والتفوا من حوله. وكلّما تأخّر أو تعثّر أو فشل في تطبيق وعوده تراجعت شعبيته، وقلّ اليقين بقدرته على التغيير، وانفض الناس من حوله.

والمتابع لمحامل الخطاب السياسي عند الرئيس التونسي، قيس سعيّد، يتبيّن أنّ الرجل سخر خلال حملته الانتخابية (2019) من وعود السياسيين للتونسيين، وشبّهها بـ"وعود كافور الإخشيدي للمتنبّي". وبعد وصوله إلى الحكم، دأب رئيس الجمهورية على تقديم وعود ورديّة للمواطنين. ومن المهمّ، بعد زهاء أربع سنوات من تولّيه مقاليد الرئاسة، وبعد عامين من توسيع صلاحياته وإمساكه بزمام جميع السلطات، الوقوف عند أهمّ تلك الوعود ومدى تحققها في واقع الناس.

سياسيا، وعد قيس سعيّد إبّان تولّيه مهامّه باحترام دستور2014، والمحافظة على المسار الديمقراطي، وعدم المسّ بالحقوق والحريات العامّة والخاصٌة. لكنه بعد حركة 25 يوليو/تموز (2021) ألغى الدستور الذي ساهمت مكوّنات المجتمع المدني في صياغته، وكان محلّ توافق بين جلّ التونسيين. ووضع دستوراً آخر. وفكّك الانتظام المؤسّسي للعملية الديمقراطية التشاركية. فأمر بحلّ البرلمان، وهيئة دستورية القوانين، والمجلس الأعلى للقضاء، وغيّر تركيبة هيئة الانتخابات والقانون الانتخابي على طريقته، وأمسك بزمام السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، على نحو نقض مبدأ الفصل بين السلطات. وأدّى عمليا إلى الانتقال من نظام برلماني تشاركي معدّل إلى نظام رئاسي، فرداني، مطلق. وأفضت التدابير الرئاسية إلى انقسام حادّ داخل الاجتماع السياسي التونسي بين أنصار قيس سعيّد ومعارضيه. وفي الأثناء، انتشر خطاب الكراهية، والإقصاء والإقصاء المضادّ بشكل غير مسبوق. وبدا أنّ توجّهات سعيّد السياسية لا تحظى بقاعدة شعبية واسعة. وجلّت ذلك محدودية نسب المشاركة في الاستشارة الإلكترونية (5%)، والاستفتاء على الدستور (27%)، والانتخابات التشريعية (11%). وأرجع ذلك مراقبون إلى استياء طيْفٍ معتبرٍ من المواطنين من نكوص سعيّد عن وعده بالالتزام بمحامل دستور الثورة ومخرجات مشروع الدمقرطة في البلاد. وعلى صعيد متّصل، أخبرت تقارير متواترة صادرة عن منظمّات حقوقية موثوقة بتراجع منسوب الحرّيات زمن حكم سعيّد. وذلك في ظلّ منع ناشطين من السفر من دون إذن قضائي، وفرض الإقامة الجبرية على سياسيين واعتقال آخرين. يضاف إلى ذلك التضييق على حرّية التظاهر، وعلى حرّية التعبير. وتأكّد ذلك مع صدور المرسوم عدد 54 الذي فرض قيوداً على الحقّ في النشر والتعبير، وتمّت إحالة كثيرين بموجبه على القضاء، على خلفية معارضتهم سياسات النظام الحاكم. وبعث انحسار الحريات رسائل سلبية إلى الرأي العام الداخلي والخارجي، وأفضى إلى خروج تونس من نادي الدول الديمقراطية.

لم تنجح حكومات قيس سعيّد في تحسين الوضع المعيشي للتونسيين، فقد تآكلت الطبقة الوسطى، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني

اقتصادياً، تركّز الوعد الرئاسي على توفير موارد مالية جديدة لخزينة الدولة من خلال تفعيل الصلح الجزائي مع عدة رجال أعمال، وبعث شركات أهلية، واسترجاع الأموال المنهوبة من الخارج. وصدر مرسوم الصلح الجزائي في 21 مارس/ آذار2022، ونصّ على تسوية مع رجال أعمال متّهمين بالفساد زمن حكم بن علي، من خلال استبدال الدعوى العمومية ضدّهم وما ترتّب عنها من تتبّع أو محاكمة أو عقوبات بدفع مبالغ مالية أو إنجاز مشاريع وطنية أو جهوية أو محلية. وتطلع سعيّد إلى جمع زهاء 13.5 مليار دينار (4.5 مليارات دولار)، من عائدات الصلح، بناء على قراءة قدّمتها لجنة تقصّي الحقائق عن الرشوة والفساد لـ460 ملفاً، لأشخاص حققوا منافع غير قانونية. لكن بعد شهور على إحداث لجنة الصلح الجزائي لم يتحقق المأمول، ولم تتدفّق مئات المليارات إلى خزينة الدولة، وما زالت حصيلة الأموال المستعادة ضعيفة. وذلك لوفاة بعض رجال الأعمال، وإفلاس آخرين، ومغادرة غيرهم البلد، وإحجام آخرين عن إبرام صلح شامل مع الدولة، وانخراطهم في صراع قضائي طويل معها. وبذلك، بدا الوعد بنيْل ثمار الصلح الجزائي أمراً بعيد المنال.

وفي خصوص الشركات الأهلية، تعتبر من ركائز المشروع الرئاسي، وعدّها سعيّد مصدراً لخلق الثروة، وطريقة ناجعة "لتمكين الشباب من تحقيق آماله في الشغل والكرامة الوطنية". وبعد عام ونصف العام من صدور مرسوم إحداثها، ما زال المشروع متعثّرا، وعائداته المالية، وقدرته التشغيلية والإنتاجية ضعيفة. بل لم تباشر بعض الشركات الأهلية عملها بعد شهور من تأسيسها لما تواجهه من تعقيدات قانونية، وصعوبات عقارية وإدارية، ولعزوف جلّ البنوك عن تمويلها. أمّا استرجاع الأموال المنهوبة من الخارج، فحلم جلّ التونسيين، وهو وعد حاضر بشكلٍ متواتر في خطابات الرئيس قيس سعيّد. وقد شكّل لجنة معنية بهذا الشأن الجلل قبل سنتين، وأسند رئاستها إلى وزير الخارجية، لكنّها لم تجتمع إلّا نادراً، ولم تنشر بعد تقرير أعمالها. ولم تنجح في استعادة ولو جزءا بسيطا من أموال التونسيين المهرّبة إلى الخارج. وكان يُفترض أن تطوّر اللجنة أداءها، وتُطالب الجهات الدولية بتفعيل اتفاقية المساعدة الإدارية المتبادلة، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وتؤكّد لها أنّ الجريمة الاقتصادية المتعلّقة بنهب المال العام لا تسقط بالتقادم.

على الصعيد الخدمي، استبشر التونسيون بإعلان قيس سعيّد نيته إنشاء خط قطار سريع يربط أقصى شمال البلاد بجنوبها (27/02/ 2021)، واعتبروا ذلك بادرة رئاسية لتطوير قطاع النقل. لكن ذلك الوعد ذهب طيّ النسيان، ولا خبر عن إمكان تنفيذه قريبا. وفي السياق، تفاءل أهالي القيروان وعموم سكّان الوسط والمناطق الطرفية بإعلان سعيّد عزمه إحداث "مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان"، وتحديده قطعة الأرض التي يُفترض أن يُبنى فيها المشروع، وبذله الجهد لتوفير التمويلات الضرورية لذلك. وبعد عامين ونصف العام من إطلاق ذلك الوعد الجميل لم تر المدينة الطبية النور بعْدُ.

انتشر خطاب الكراهية، والإقصاء والإقصاء المضادّ بشكل غير مسبوق. وبدا أنّ توجّهات سعيّد السياسية لا تحظى بقاعدة شعبية واسعة

بدا الرئيس قيس سعيّد قريبا من النّاس، ناطقا بهمومهم ومشاغلهم، وتميّز بأدائه عدّة زيارات ميْدانية لأهالي المحافظات الداخلية، والأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة. وعبّر في كلّ زيارة عن انحيازه لمطالب المواطنين في تطلّعهم إلى غد أفضل، وإلى العيش في كنف الاستقرار والكرامة. وندّد بلوبيات الاحتكار والفساد والاستثراء الفاحش التي تسعى إلى تجويع التونسيين والتنكيل بهم، على حدّ تعبيره. وبعد سنوات من حكمه، لم تنجح حكومات الرئيس قيس سعيّد بحسب مراقبين في تحسين الوضع المعيشي للتونسيين، فقد تآكلت الطبقة الوسطى، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وتدهورت المقدرة الشرائية لجلّ المواطنين، وأصبح الناس يجدون صعوبة في الحصول على مواد أساسية مثل الحليب، والدقيق، والأرز والسكر، بسبب عجز الدولة عن توفيرها في السوق، والإيفاء بتعهّداتها المالية للمزودين الأجانب. كما اتسعت دوائر الفقر والبطالة. ودفع ذلك كثيرين إلى ركوب قوارب الهجرة النظامية نحو أوروبا. فيما اعترى آخرين شعور بالإحباط وعدم اليقين بشأن القدرة التغييرية/ الإصلاحية لمسار 25/07/2021 الذي لم يحقّق في نظرهم وعوده بالتنمية الشاملة، والتمكين للشباب، وتوفير خدمات القرب، وتحسين الوضع المعيشي لعموم التونسيين.

خارجيا، وعد سعيّد باستعادة هيْبة الدولة التونسية وسيادتها، وعلت خلال فترة حكمه نبرة الخطاب السيادي. وهو توجّه يجد قبولا لدى الجماهير، لأنّه يرجّع مقولات السيادة الوطنية، والتحرير الوطني، واستقلالية القرار الداخلي، والتفاعل الندّي مع الآخر. وفي هذا السياق، قال الرجل: "لنا سيادتنا، ولنا اختياراتنا بناء على الإرادة الشعبية، ونحن لسنا إيالة، ولا ننتظر فرمانا من جهة معينة". ولكنّ السيادة العالية في الخطاب السياسي/ التعبوي، تبقى غير تامّة ما لم تعضدها سيادة على الثروة، وقدرة على الإنتاج، وتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، فالسيادة تبقى نسبيّة في عالم معوْلم، وفي دولة يأكل شعبها من وراء البحر، وتكابد من أجل الحصول على قروض مشروطة من صندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي ومن الجهات المانحة. وتكفي الإشارة إلى أنّ تونس اقترضت، بموجب أوامر رئاسية بعد 25/07/2021 ما يقدّر بـ6500 مليون دينار بحسب مرصد رقابة. كما أنّ أوّل اتّفاق صدّق عليه البرلمان الجديد اتّفاق قرض للحصول على 500 مليون دولار من البنك الأفريقي للتوريد والتصدير بغرض تمويل موازنة 2023. ومن ثمّة، من الصعب الحديث عن سيادة مطلقة في ظلّ تبعية اقتصادية للخارج.

ختاماً، يبدو قيس سعيّد من خلال نزوله المتكرّر إلى الشارع التونسي أخيراً، وتأديته زيارات مفاجئة لعدّة مؤسسات مدنية وهيئات إدارية، في سباق مع الزمن السياسي، لتحقيق وعوده المعلنة التي غدت ضاغطاً ذاتياً عليه، واختباراً حقيقياً لمصداقيّته وحدود شعبيته. فتطبيقها أو عدمه يؤثّر إلى حدّ معتبر على مستقبله السياسي وعلى حظوظه في الفوز برئاسيات 2024.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.