وشهد شاهدٌ من أهلها

22 اغسطس 2023
+ الخط -

ما كان لتصريحات جنرال إسرائيلي متقاعد أن تستأثر بمقال من أوله إلى آخره، وأن تستحقّ الإضاءة المكثفة، لولا أنها أتت لافتة، غير مسبوقة، ومتخطّية الخطوط الحمر المعتمدة لدى دولة مصابة بعقدة الضحية الأبدية والكارثة التاريخية، من دون أن يعني ذلك أنها تصريحاتٌ يمكن التعويل عليها في هذه الآونة، أو اعتبارها نقطة تحوّل في مجرى الصراع أو الوعي، أو غير ذلك من المسائل المثيرة للجدل الذي لا نهاية له داخل الأوساط العربية والفلسطينية، سواء بشأن الأولويات أو الوسائل أو التقييمات المتصلة بحاضر القضية التي تزداد تعقيداً ومستقبلها.
والحقّ أن هذه التصريحات الاستثنائية، على أهميتها، ما كان لها أيضاً أن تكون محل مراجعة وموضع نقاش، لولا أنها صادرة عن شخصية عسكرية ذائعة الصيت في جيش الاحتلال، الأمر الذي أضفى مزيداً من الأهمية على أقوال هي الأولى من نوعها، أدلى بها الجنرال عميرام ليفين من على شاشة القناة العامة الإسرائيلية، بتعبيراتٍ أتت مفاجئة تماماً، ليس لدينا نحن فقط، وإنما أيضاً لدى قطاعات واسعة من الرأي العام والنخب السياسية والأمنية في الدولة العبرية التي صدمتها كل هذه الصراحة البالغة في تشخيص حالة الاحتلال، جيشاً ومستوطنين، في الضفة الغربية، وفي تسمية الولد باسم أبيه.
قبل صرف أي جهد في تحليل هذه التصريحات، كان لا بد من التعرّف أكثر على صاحبها، وهو ما يتيحه محرّك البحث بسهولة نسبية، حيث تبين أن هذا الجنرال في الثمانين من العمر، شارك في كل حروب إسرائيل بدءاً من حرب 1967، وشغل منصب نائب رئيس هيئة الأركان، وموقع قائد الجبهة الشمالية، وتولى مناصب عديدة في وحدات الاغتيالات والاستخبارات (نائب رئيس الموساد)، كما أنه تنافس ذات مرّة، من داخل الليكود، على احتلال مقعدٍ في الكنيست، أي إنه يميني العقيدة السياسية، الأمر الذي يصعّب على خصومه ومنتقديه رميَه بتهمة اليسارية مثلاً.
إذا كانت هذه بعض صفات القائل، وهو قاتلٌ محترف، فما أقواله التي أثارت الدهشة وتناقلتها وسائل الإعلام، وأحدثت كل هذا السجال في الأوساط الإسرائيلية المختلفة؟... من بين ما قاله ليفين، في مقابلته التلفزيونية المطولة، أن رئيس الحكومة، نتنياهو، خاضعٌ لمتطرّفين وجماعات مجرمة أتت من مستوطني الضفة الغربية، من فتيان التلال الذين باتوا يتولّون وزارات سيادية، بدل أن يكونوا في السجن، وأن ما يحدث في الضفة الغربية منذ 57 عاماً يطابق الفصل العنصري الذي كان سائداً في ألمانيا النازية، وضرب على ذلك أمثلة حسية من مدينة الخليل. كما تحدث الجنرال في الاحتياط عن موضوعات عديدة ذات صلة بالحياة الداخلية الإسرائيلية، وأظهر نقداً لاذعاً لحكومة اليمين الفاشي، وبدا واحداً من بين قادة المؤسسة الأمنية التي تقود الحراك الاحتجاجي منذ 33 أسبوعاً.
وهكذا تبدو أهمية ما قاله عمرام ليفين مضاعفة، الأولى نابعة من كسره المحرّمات في المساجلات الإسرائيلية التي تجيز، على مضض، اتهام قوات الاحتلال بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تقتل وتمارس الفصل العنصري، وترتكب الفظائع بالجملة، إلا أنها تحظر بالمطلق، وتحرّم، في شتى الأحوال، عقد أي مماثلة أو مقارنة بين سلوكياتها الإجرامية والمسلكية النازية (على خلفية الهولوكوست)، وهذا ما خرقه ليفين بالصوت والصورة. والأهمية الثانية مستمدّة من شخصية رجل عسكري يميني النزعة، يعتبره الجنود "بطلاً قومياً"، لا هو كاتب أو ناشط يساري عُرف بمعارضته الاحتلال، ولا صلة له مثلاً بمنظمة بيتسيلم، أو غيرها من المنظمات الحقوقية، الأمر الذي حصّنه من النقد الجارح، وحماه من هجمة كلامية ضارية.
على هذه الخلفية، جاء العنوان أعلاه "وشهد شاهدٌ من أهلها"، بديلاً لعنوانٍ مشابه مثل "الحقّ ما شهدت به الأعداء"، أو "من فمك أدينك يا إسرائيل"، تحاشياً لسجال لا ضرورة له، ومنعاً لكل تأويل في غير محلّه، لا سيما أن هذه التصريحات لا تعبّر إلا عن أقلية قليلة، غير أنها قدمت خدمة جليلة للخطاب السياسي والإعلامي الفلسطيني، الذي صارت بين يديه وثيقة إدانة دامغة لجيش احتلالٍ مدجّج بالحقد والأسلحة والعنصرية، وفوق ذلك بالطباع النازية، حيث بات من الممكن تقديم هذه التصريحات الصادرة عن جنرال في الاحتياط إلى محكمة الجنايات الدولية، ومحكمة العدل الدولية، ومختلف المنظمات الحقوقية، بل وإلى الحكومات الغربية التي تخشى تسمية الاحتلال باسمه الحقيقي، احتلالاً وحشياً، تُقلّد فيه الضحية الأبدية جلّادها النازي خطوة بخطوة.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي