ورقة المناصرة الفاعلة!

20 أكتوبر 2023

احتجاج ضد العدوان الإسرائيلي على غزة في شيكاغو في ولاية ألينوي (18/10/2023/الأناضول)

+ الخط -

لم تقتصر تداعيات عملية طوفان الأقصى على غزّة وأهلها، فما يُعلَنُ صراحةً عن نيّة تنفيذه، على لسان القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، هو نكبة ثالثة للشعب الفلسطيني أولًا، وهو تغييرٌ مدروس وممنهج للبنية الديمغرافية لفلسطين ثانيًا، وهو تكريسٌ لدولة الفصل العنصري الأخيرة في العالم، والقائمة على أسسٍ دينية قومية متطرّفة، وعلى أنقاض شعبٍ كاملٍ وحقّه في الوجود والحياة ثالثًا، وهو تغييرٌ للخريطة السياسية في المنطقة وتكريس واقعي للدويلات المفتّتة القائمة عل أسس طائفية أو مذهبية، تكرّس عنصرية إسرائيل ويهوديّتها، وتشرعنها في الوقت ذاته رابعًا. هو كذلك تكريس واضح لانهيار المنظومة الأخلاقية والقانونية التي قامت عليها منظمة الأمم المتحدة ومنظومة القانون الدولي. إنها تكريسٌ حقيقي ويومي ومباشر لمبدأ عدم المساواة في الحقوق بين البشر، وعدم المساواة في الخضوع لموجبات القانون الدولي، وفي مقدمته القانون الجنائي الدولي وقانون حقوق الإنسان. إنها تعميد أبدي لفكرة الدول التي يحقّ لها أن تفعل ما تشاء ومتى تشاء، وحيثما تجد مصلحة لها في ذلك، مقابل دولٍ وشعوبٍ عليها الانصياع على الدوام لمجموعة القوانين التي لا تطبَّق إلا عليها.

الآن، بعد أن فاق الانحياز الغربي للرواية الإسرائيلية حدّ التصور، وبعد أن خرق السلوك السياسي والإعلامي للغرب المعقول والمنطق، وبعد هذا الصمت العربي الأشبه بصمت الأموات، شعوبًا مغلوبًا على أمرها، ودولًا تخلّت أغلبيّة أنظمة الحكم فيها عن مسؤولياتها السياسية والوطنية والقومية والدينية، قبل الأخلاقية والإنسانية، وبعد أن عجزت مؤسّسات الأمم المتحدة المختلفة والنظام الدولي المعتلّ عن وقف المذبحة الجماعية، صار لا بدّ من قراءة المشهد ضمن مقاربةٍ مختلفةٍ تأخذ بالاعتبار الواجبات المفروضة على الشعوب العربية والإسلامية، وعلى الجاليات المقيمة منها في دول الغرب الديمقراطي "المتحضّر". وتنطلق هذه المقاربة من ضرورة مخاطبة الرأي العام العالمي الذي هو ذاته من أوقف الحرب في فيتنام، ومن عرّى الحرب على العراق، وهو الذي سيكون بمقدوره الضغط لوقف المقتلة الجارية في غزّة.

يمكن في الدول الديمقراطية الاحتماء بالقانون، وبالتالي يمكن للمحامين والمحاميات وللمتخصّصين من المنظمات والجمعيات وأبناء الجاليات المناصرة للشعب الفلسطيني أن تبيّن للناس أساليب العمل التي لا تخرُق القانون، ويمكنها -بل من واجبها- أن تبدأ بحملات مناصرة ممنهجة عبر وسائل التواصل، لتعريف الناس بممكنات التحرّك. سيكون من الصعوبة بمكان حشد وسائل الإعلام التقليدية، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي المنتمية كلها إلى المنظومة الغربية خلف هذه القضيّة المحقّة، لكن لا مانع من المحاولة بكل تأكيد، فثمّة فرقٌ واضحٌ بين تغطية المحطات الإعلامية والصحف الشهيرة الأميركية وتغطية تلك الأوروبية، كذلك هناك فرق بين منصّة X (تويتر سابقاً) وغيره من وسائل التواصل والمنصّات الرقمية الأخرى. يمكن أيضًا طلب ترخيص المسيرات والوقفات الصامتة تحت عنوان "لا للحرب"، وهنا سيكون لنشطاء السلام والبيئة دورٌ كبيرٌ وفاعلٌ في هذا الأمر.

الفرصة متاحة للفلسطينيين لقلب موازين القوى في شوارع الدول الغربية

الملاحظ والجدير بالذكر، أنّ ثمّة تعاطفاً شعبياً مع القضية الفلسطينية، ويزداد في صفوف التيارات اليسارية، كما في صفوف الطلبة والشباب، فهؤلاء أكثر تقبلًا لأفكار التحرّر والاستقلال وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. وفي مقارنة بين التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية عمومًا، ومع القضية السورية، نجد البون شاسعًا، ما يعود إلى عدّة أسباب، لعلّ أهمها العمر الزمني الأطول لمعاناة الشعب الفلسطيني، والوجود النشط للجالية الفلسطينية والأدوات المساعدة أكثر من خلال شبكة العلاقات العامة التي بُنيَت خلال العقود المنصرمة. عندما يهمّ الفلسطينيون لتسيير مظاهرة مناصرة لقضيتهم، فإنّ الأعداد تكون بالآلاف في الشوارع، وتجد من الجاليات العربية والإسلامية الكثيرين، كذلك تجد نشطاء السلام والبيئة واليساريين وفئات الفنانين والمثقفين. لم يأتِ هذا كلّه من فراغ، فقد بُني عبر سنوات طوال من الكفاح والتواصل وعبر الاندماج في نظام الحياة العامّة في المجتمعات الغربية، وهذه كلها لم تتوافر بعد للسوريين بسبب حداثة مأساتهم نوعاً ما، وبسبب التشويش الرهيب الذي استطاع النظام وحلفاؤه إشاعته عن ثورتهم، وبسبب مساعدة قوى ظلامية نُسبت إلى الثورة في هذا النهج.

الفرصة متاحة للفلسطينيين لقلب موازين القوى في شوارع الدول الغربية، ومع الصمود الذي يبديه أهل غزّة ومقاومتهم الصلبة لكل محاولات التهجير والتركيع، ومع طول أمد الحرب وارتفاع كلفتها السياسية، ومع اكتشاف أساليب التضليل والتدليس الإعلامي الغربي، سيتغيّر المزاج العام الغربي والعالمي. لن تتوسّع الحرب إقليميًا، فلا إيران لها مصلحة في توسعتها، ولا الولايات المتحدة أيضًا، فالأولى تخشى على برنامجها النووي الذي بات قيد الإنجاز، والثانية لا تريد أن تتورّط في حرب إقليمية كبرى قبل أشهرٍ معدودات من الاستحقاق الانتخابي الرئاسي. الساحة مفتوحة لنشاط (وتفاعل) القوى المدنية والسياسية ومجموعات المثقفين والفنانين وأصحاب المحتوى الهادف على وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل تغيير موازين القوى، يبقى علينا أن نعرف كيف يمكن القيام بذلك.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود