ورقة "معاداة السامية" لردع إدانة جرائم إسرائيل
تدرك جماعات الضغط الصهيونية في الغرب حجم الضرر الذي لحق بصورة إسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة وكندا، وفي ساحاتٍ عالمية أخرى كثيرة. وبالتالي، تحاول تلك الجماعات حرف محور السردية ومركزها، من كونها نتيجةً مترتبةً على الاحتلال الاستيطاني الصهيوني غير المشروع وغير القانوني لفلسطين، بما يتضمن من قمع وبطش وعدوان على السكان الأصليين للأرض، إلى الزعم أن تراجع سمعة إسرائيل مناطه "معاداة السامية".
بداية، التحولات التدريجية في الأمزجة الشعبية والسياسية الغربية ضد الدولة العبرية حقيقية، وهي لم تبدأ مع العدوان الإسرائيلي الوحشي أخيرا على القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والفلسطينيين ممن يحملون جنسية إسرائيل. هذه تحولاتٌ تجري بوتيرة متصاعدة منذ عقد ونصف العقد على الأقل، ومردّها السياسات الإسرائيلية المتوحشة بحق الفلسطينيين، واستمرار احتلال أراضيهم ومنعهم حقهم في تقرير مصيرهم. في حين يعاني الفلسطينيون، المسلمون والمسيحيون، ممن يفترض أنهم مواطنون إسرائيليون، من تمييز عنصري يجعل منهم مواطنين من درجة ثانية أو ثالثة بعد اليهود.
هذا هو بالضبط ما يجسّده "قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل" الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي عام 2018، وينص، ضمن أمور أخرى، على أن "أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وفيها قامت دولة إسرائيل". وأن "دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وفيها يقوم بممارسة حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي لتقرير المصير". فضلاً عن أن "ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي". هذه المبادئ غير الأخلاقية والعنصرية لا يمكن تبريرها بسهولة في الدول الغربية اليوم، خصوصاً في خضم تصاعد قوة وتأثير حركات الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية في قلبه، ورفض النظم والمؤسسات القائمة على التمييز العنصري. وقد رأينا، أخيرا، حجم التعاطف الواسع مع حقوق السود واللاتينيين والآسيويين الأميركيين في الولايات المتحدة. الأهم من ذلك، أن ثمَّة عبارة في أوساط التيار التقدمي الأميركي، تكتسب مزيداً من الزخم، أنه ليس من المقبول أن تكون تقدّمياً في كل شيء إلا عندما يتعلق الأمر بفلسطين.
ثمّة خلط، بشكل متعمد وخبيث، بين بعض أشكال النقد الموجه لإسرائيل ومعاداة السامية
أمام هذا الواقع الذي يقدّم إسرائيل كما هي، دولة احتلال وإحلال استيطاني وإلغاء للسكان الأصليين، لم يعد أمام قادة الدولة العبرية وأنصارها إلا اتهام كل من ينتقد الجرائم الإسرائيلية بـ"معاداة السامية". المفارقة هنا أن تعريفهم معاداة السامية لا يقتصر على خطاب الكراهية أو العنف الموجه ضد اليهود من حيث كونهم يهوداً، وتحميلهم بشكل جماعي مسؤولية الجرائم التي ترتكبها إسرائيل كدولة، بل إنه توسّع ليشمل أي نقد لها ولسياساتها. إنها محاولة لترسيخ آلية ردع لترهيب كل صاحب موقف أخلاقي من قول ما يحتّمه عليه ضميره. وللأسف، تؤتي هذه الإستراتيجية أكلها في أحيان كثيرة، إذ اضطر مشاهير من "هوليود"، كباريس هيلتون، ومارك رافالو، وعائشة كاري، وكيندال جينر للتراجع عن تغريداتٍ سابقةٍ لهم مؤيدة للشعب الفلسطيني خلال العدوان أخيرا عليه، بل والاعتذار عنها.
يدرك اللوبي الصهيوني في بعض عواصم غربية، وتحديداً واشنطن، وطأة تهمة "معاداة السامية"، ومن ثمَّ فقد سارع إلى الدفع بتعريف "التحالف الدولي لإحياء الهولوكوست" لها، والذي يخلط، بشكل متعمد وخبيث، بين بعض أشكال النقد الموجه لإسرائيل ومعاداة السامية. ويسعى متوسّلو هذه الحجة إلى جعل كل دفاع عن حقوق الفلسطينيين بموجب القانون الدولي، والمناداة بإنهاء نظام القمع الإسرائيلي، ودعم حركة المقاطعة اللاعنفية لدولة الاحتلال، وانتقاد الصهيونية وإسرائيل، وإدانة الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية والتطهير العرقي بحق السكان الفلسطينيين، والدعوة إلى المساواة وإلغاء القوانين العنصرية، صوراً من أشكال "معاداة السامية".
اتهام إسرائيل خصومها بمعاداة السامية ما هي إلا حجة المفلس أخلاقياً وسياسياً
في هذا السياق، وجّه ثلاثة أعضاء ديمقراطيين يهود في مجلس النواب الأميركي رسالة، يوم الأربعاء الماضي، إلى الرئيس جو بايدن، حثّوه فيها على تعيين سفير لمعاداة السامية. وقد سعى هؤلاء إلى حرف النقاش من التركيز على العدوان الإسرائيلي أخيرا إلى بعض الاعتداءات الفردية والمعزولة، المدانة مبدئياً وأخلاقياً، التي وقعت على يهود أميركيين في ولايات نيويورك وكاليفورنيا وفلوريدا خلال مظاهرات مؤيدة للشعب الفلسطيني. اللافت أن الرسالة انتقدت زملاء لهم في الكونغرس، واعتبرتهم معادين للسامية، لا لشيء إلا لأنهم يتهمون إسرائيل بأنها "دولة أبارتهايد" و"ترتكب أعمال إرهابية"، وكأن الشمس تغطّى بغربال!
باختصار، اتهام إسرائيل ولوبياتها أي طرف، بما في ذلك الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بـ"معاداة السامية" عندما ينتقدون سياساتهم العدوانية والوحشية، ما هي إلا حجّة المفلس أخلاقياً وسياسياً. هم يدركون أن اتجاه الريح يتغير بشكل سريع، لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية الاستثمار في عدالة القضية الفلسطينية، ورفض أي محاولةٍ لترهيبنا وردعنا عن الدفاع عن الشعب الفلسطيني وحقوقه ومظلوميته في الغرب. هذا بعض دورنا هنا، وهو مكمل لصمود الفلسطينيين ومقاومتهم البطولية على أرضهم وتضحياتهم الكبيرة، حتى يشاء الله أمراً كان مفعولاً.