وجه إيران الآخر
وجه آخر لإيران، ظهر في الشارع بوضوح خلال المظاهرات الاحتجاجية على وفاة الشابة مهسا أميني، وهو وجه نساء هذا البلد اللواتي جرى إبعادهن عن الواجهة بعد الثورة الإسلامية ضد الشاه عام 1979. وعلى الرغم من أن الثورة الخضراء عام 2009 شهدت مشاركة نسائية مهمة، ونزولا لافتا إلى الشارع للهتاف ضد الحكم، فإن الصورة المتداولة عن المرأة في إيران أنها جزء من المشهد العام، وليس هناك أي علامةٍ تميّزها عن باقي مكونات المؤسّسة التي توجّهها السلطة الدينية. وبالتالي، الصورة النمطية للمرأة الإيرانية أنها مدجّنة وصامته ولا صوت لها، وحين كان يجري تقديمها إلى الفضاء العام، فهي تظهر ملفوفةً باللباس التقليدي الأسود، تسير وفق قواعد وضوابط رسمية، وضمن مساراتٍ مدروسةٍ محدّدة بخطوط حمراء.
الرسائل التي وجهتها مشاركة المرأة الإيرانية في تظاهرات الشهر الأخير عديدة. الأولى، إن جيل الشابات مختلف، وكانت البداية من الثورة الخضراء. وهو غير جيل الأمهات، وهذا لا يعني، بالطبع، أن الأجيال السابقة مواليةٌ كليا للمؤسّسة، ولكن أغلبية الجيل الجديد معارضٌ لها، وتعبر المظاهر الاحتجاجية من حرق للحجاب، وقصّ الشعر، عن رفضٍ عميقٍ مكبوتٍ ومتراكم، عبرت عنه طالبات المدارس والجامعات.
والرسالة الثانية إن النفس الاحتجاجي ليس مقتصرا على الشابات، ومؤكّدٌ أن أسباب الاحتجاجات ليست مرتبطةً بالحجاب، بل بما يعيشه الجيل الشاب من إقصاء وتهميش من المؤسسة الحاكمة التي بلغت سن الشيخوخة بكل معنى الكلمة، وباتت بعيدة كل البعد عن تطلّعات الأجيال الجديدة من شابات وشباب، وهؤلاء الذين تشكّل وعيهم على ما يصل إليهم من وسائل التواصل المعولمة التي ربطتهم بأقرانهم في كل مكان، لا يشبهون بكل حال من يتحكّم بالبلد وموارده وقراراته، ويقوده ويوجّهه ويرسم مستقبله.
والرسالة الثالثة إن الأجيال التي ولدت ونشأت في ظل سلطة رجال الدين لا ترغب في الاستمرار بالحياة في ظل هذا النظام، وتطمح إلى مستقبلٍ مختلفٍ لا يمكن تحقيقه في ظل المؤسسة الحاكمة الآن. وبالتالي، لن تكون التحرّكات الاحتجاجية في هذا الوقت الأخيرة، بل إنها تمهد الطريق لما هو أهم وأبعد لكسر القيد الكبير الذي صنعته المؤسّسة الدينية لحكم هذا البلد، والتي تستوحي النموذج الصيني على نحوٍ بائس، مع فارق أساسي، أن الصين التي صادرت الحريات نجحت، إلى حد كبير، بمحاربة الفقر وتكوين طبقة اجتماعية واسعة، وهو ما لم تنجح فيه السلطة الحاكمة في إيران، بل تسير من سيئ إلى أسوأ اقتصاديا وسياسيا، لا سيما على صعيد قمع الحرّيات.
المؤكد اليوم أن المؤسسة الدينية الإيرانية عاجزة عن الحكم وعن تجديد نفسها، لأسباب كثيرة. أهمها أن الجيل الذي يسيطر على السلطة والقرار في إيران بات من الماضي، وليس لديه ما يقدّمه اليوم من أجل استقرارٍ مديد، ويعتبر أن شرعية الثورة التي أوصلته إلى الحكم لا تزال قابلة للحياة، وبالتالي، هو غير قادر على تجديد نفسه، وتقديم مشروعٍ منفتحٍ يسمح بمجاراة العصر. والمثال على ذلك الموقف من المعارضة السياسية والثقافية والتدخلات الخارجية، ومنذ إسقاط حكم الشاه، تضيق دائرة المجموعة التي سيطرت على الحكم ولا تتسع، بل تنبذ كل صاحب رأي مختلف، والمثال على ذلك التيار الإصلاحي الفعلي الذي خسر فرصة الحكم عام 2009، والأمر ذاته فيما يتعلق بالثقافة الجديدة التي تواجه حربا شرسة، وخصوصا السينما التي قدّمت وجها مختلفا لإيران، وكذلك الأمر بالنسبة للمعيقات التي تواجه عملية التحديث وتجديد البنى التحتية لتمكين الإيرانيين من حياة عصرية، وذلك بسبب استنزاف موارد البلد في حروبٍ ومغامراتٍ خارجية، ألحقت دمارا كبيرا في اليمن، سورية، لبنان، والعراق.