حرب إسرائيلية إيرانية بتفاهم مسبق
بات العالم أمام نمط جديد من الحرب يقوم على التفاهم المسبق حول التوقيت والأهداف. وقد جرّبت إسرائيل وإيران (حتى الآن) هذا النوع من المبارزة بنجاح مرّتَين، تبادلا فيهما الضربات من دون أن يخلّ أحدهما بقواعد اللعبة. وتمثّلت الجولة الأولى بالردّ الإيراني (14 إبريل/ نيسان الماضي) على قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق (في الأول من الشهر نفسه)، سقطت فيها مجموعة من كبار الضباط الإيرانيين، بينهم القيادي البارز في فيلق القدس التابع للحرس الثوري محمد رضا زاهدي. وفي حينه، فوجئ العالم بعدد كبير من الطائرت الإيرانية المُسيَّرة، التي أسقط العدد الأكبر منها قبل أن تدخل المجال الجوي الإسرائيلي، ولم تُلحِق ضرراً ذا وزن بإسرائيل، التي مارست حقّ الرد عليها بما يُرضي الطرفَين، وطوي الملفّ، حتى جرى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة في طهران في نهاية يوليو/ تمّوز الماضي، وقرّرت طهران أن تردّ من أجل الثأر لضيفها، وحفظاً لماء الوجه، فانتظرت قرابة شهرين لترسل في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ما يتجاوز 200 صاروخ بالستي، لم تكن فعّالة عسكرياً، ولكنّها أثارت قدراً كبيراً من الغبار الإعلامي، دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى التهديد بردّ مزلزل، وبقي العالم يترقّب ذلك، حتى جاءت الضربة في 20 أكتوبر الماضي، التي قالت طهران إنها لم تطاول البرنامج النووي، ولا مراكز الطاقة والنفط، ولا برنامج الصواريخ البالستية.
جرى تقديم التفاهم المسبق على الردّ الإسرائيلي بأنه إنجاز توصّلت إليه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على بُعد أيام قليلة من الانتخابات الرئاسية الأميركية. وحسب ما تداولته بعض وسائل الإعلام، ضغطت واشنطن على نتنياهو من أجل القيام بردّ منضبط، وحدّدت له مواصفات ذلك، وقامت بمفاوضات مع إيران عبر سويسرا وسلطنة عُمان، من أجل وضع اللمسات على السيناريو الذي يرضي تلّ أبيب ولا يُغضب طهران، وبالتالي استبعاد احتمال أن تجري الانتخابات الأميركية في ظلّ حرب إقليمية واسعة يمكن لها أن تنعكس سلباً على حظوظ المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس. وحسب التسريبات، استجاب نتنياهو لردّ لا تتولّد منه مضاعفات كبيرة، وذلك أمر غريب، ويستحق التوقّف أمامه، لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يسبق له أن رضخ لطلب من الإدارة الأميركية بخصوص مسائلَ أقلّ أهميةً من ذلك، بما في ذلك السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزّة، وسبق أن ابتزّ واشنطن، وحصل منها على أسلحة نوعية ودعم مالي كبير، في مقابل تنازلات هامشية، الأمر الذي يبعث على الشكّ في قبوله تخفيف الردّ على إيران من دون مقابل مُجزٍ.
تناور إيران خارج أراضيها، وتعمل منذ بداية الحرب على غزّة كي تكون طرفاً أساسياً في المعادلة، بالقدر الذي لا توفّر فيه وسيلةً من أجل إبعاد النار عن حدودها. هي لا تريد الحرب المباشرة مع إسرائيل، ولكنّها تضع ثقلها كلّه لتأجيج الحرب في جبهات غزّة ولبنان وسورية والعراق واليمن من أجل تحسين مواقفها التفاوضية مع الولايات المتحدة بخصوص البرنامج النووي ورفع العقوبات. وتقوم المعادلة التي تتبعها على أساس أنها شريكةٌ في الربح وخارجةٌ من الخسارة، وتسوّق خطابها بحُجَج دعم محور مقاومة العرب لإسرائيل، ولا يبدو أن هذه اللعبة شارفت على نهايتها، مع أنها تلقت ضربات كبيرة في لبنان وسورية، وتبيّن الكثير من نقاط ضعفها في خوض مواجهة مباشرة مع إسرائيل، بينما تبدو تلّ أبيب عازمةً على عدم التفريط بفرصة تجريدها من أسلحة القوّة كلّها، وهذا هو عنوان الجولة المقبلة، التي تفيد تصريحات الطرفَين بأنها قد تخرج عن التفاهمات المسبقة وتكون عالية السقف.