وائل الدحدوح إذ ينجو وشعبُه ينتصر
ينفصل الشخص عن صورته فيصبح رمزاً، كأنما ثمّة اثنان، واحدٌ يمشي في طرقات الناس، ويأكل ويشرب ويكبر ويموت، وآخر يبقى في العمر نفسه الذي تحوّل فيه إلى صورةٍ تختزل رموزاً لا يستطيع حملها أو تمثّلها آخرون.
يقف وائل الدحدوح قرب رأس نجله الشهيد، ولا يتمالك نفسَه فيبكي، وبعد ذلك بنحو شهر يقف على رأس رفيق دربه وعمله، المصوّر سامر أبو دقّة، وهو يبكي رفقة الزمن الأكثر صعوبة في حياة الفلسطينيين. وقبل ذلك بيوم واحد وحسب، بينما هو مسجّى ويتلقّى العلاج بعد إصابته في قصف إسرائيلي. يصرُخ وائل، بما بقي له من صوت ضعيف، لا من الألم، بل بحثّ زملائه والمحيطين في المستشفى على أن "يلحقوا سامر". سامر الذي تُرك ينزف أكثر من خمس ساعات حتى استُشهد. سامر صاحب الوجه الضحوك، الذي يقول، في فيديو قصير له إنه لا ينام أكثر من ثلاث ساعات منذ العدوان النازي على غزّة. سامر الذي ودّعه وائل الدحدوح وعاد إلى العمل، كما فعل بعد استشهاد رفيقة عمره ونجله وابنته وحفيده، وآخرين من أفراد أسرته الكبيرة في قطاع غزّة الذي تحوّل إلى مختبر للقتل، وليس ثمّة من يردع القاتل أو يُنجد القتيل.
يمكن القول إن وائل سيشكّل حالة دراسية في كليات الصحافة عبر العالم، ولا أظنّ أن أي تغطية صحفية في زمن الحروب والصراعات الكبرى قد شهدت حالة تشبه حالته. دعك من تغطيته الماراثونية للقصف غير المسبوق على غزّة. دعك من نزاهته العالية جداً ومصداقيته التي لا يرقى إليها شكّ. لغته التي تصف بدقّة ولا تُسهب في التحليل، ذلك أنّ هذا ليس مطلوباً منه إلا في حدود معينة. دعك من تعرّض مناطق قريبة جداً منه للقصف بينما هو يواصل تغطيته، فيبتعد قليلاً عن مكان الخطر، لكنه لا يبتعد عن التغطية، برباطة جأشٍ يُحسَد عليها، يواصلها وهو يصغي إلى أصوات القصف، ويجيب عن تساؤلات مذيعي "الجزيرة" الذين يريدون الاستفسار عن هذه النقطة أو تلك أو الاطمئنان عليه.
وسط هذا الخليط من الأصوات: القصف، أصوات الغزّيين القريبين منه، أصوات المذيعين، كان وائل يصغي إلى صوته هو، الذي هو صوت شعبه، وإذ يتحدّث، فإنما ليصف الحال الذي وصل إليه هذا الشعب، من دون أن تُسجّل عليه مجرّد ملاحظة واحدة تحسم من مهنيّته العالية، أو خطأ واحد في المعلومة، رغم الحدث الهائل، الشاسع نفسياً على الأقل، المشوَّش والمشوِّش الذي قد يدفع أكثر الناس اتّزاناً إلى الاضطراب، فيتلعثم أو يخطئ أو تختلط لديه الأولويات.
نجا وائل مراراً من القصف. وبينما كان يغطّي ذلك الطوفان العارم من القصف والموت من حوله، وجد نفسه فجأة أمام مأساة عُمره. لقد طاول القصف عائلته نفسها، وكان عليه أن يحمل أفراد أسرته وقد استشهدوا بنفسه، وأن يُغالب دمعاً عزيزاً، هو دموع كلّ شعبه، وأن يطلق مفردته التي لن تُعرف بعد ذلك اليوم إلا به: معلش.
لا أظنّ أن مراسلاً في تاريخ التغطيات كلها، منذ الحرب العالمية الأولى قد شهدت هذه الحالة النادرة التي مثّلها وائل. أن يُقتل ذووه بالقرب منه، وأن يواصل هو تغطيته الأحداث بعد أقلّ من 24 ساعة، أن يعلو على الجرح، وهو عميقٌ جداً ومؤلم أكثر مما يجب.
لم تُقتل عائلته مصادفة أو في قصفٍ عشوائي، وقد أوحت تصريحاتٌ إسرائيليةٌ شبه رسمية بأن استهداف عائلة الدحدوح كان متعمّداً، فقد كانوا يريدون إيذاءه هو. أن يجرحوا الشاهد في نخاعه العظمي، لا لحمه وحسب، بأشدّ الوسائل قسوة وبدائية، كأنهم يثأرون منه ببدائية، لإيذائه في العمق، بعد أن تعذّر عليهم قتلُه على الهواء، وما قد يُرتّبه ذلك عليهم من تبعات. لكن ثأرهم منه لم يبرَد، وواضحٌ أنه أصابهم في العمق، بصوته الهادئ ومهنيّته العالية ومصداقيته، وما يتردّد، وهذا مرجّح إن لم يكن مؤكداً، أنهم قرّروا قتله وليكن ما يكون. لن يستريحوا، يا وائل، ما دام صوتك يعلو على أصوات همجيّتهم وقصفهم، لن يستكينوا، وأعرف أن الموت لا يُخيفك، وأن شعبك هو همّك، وأنك ستنجو لأن شعبك سينتصر.