هيّا نهرب

21 سبتمبر 2021

(صفية فرحات)

+ الخط -

لطالما كانت الأرض أساس الثروة التي شكّلت محور الصّراع البشري منذ بداية التاريخ، وحافز الهجرات الأكبر من منطقةٍ إلى أخرى، ومن قارّة إلى غيرها. ويبدو أنّها ستبقى كذلك، مع فرق كبير، أنها ستقود، هذه المرّة، إلى مغادرة الكوكب كلّه، نحو ما تخبّئه السّماء من "أراضٍ" على كواكب أخرى. وهو ما حاول الروائيون والمخرجون التّنبيه له منذ فترة طويلة، في سيناريوهات نهاية العالم التي نعرف. وهي اللّحظة التي لن تعود الأرض فيها صالحةً للعيش، ويضطر البشر للفرار نحو السّماء، أو الاختباء في "كانتونات" مُجهّزة، لحمايتهم من الدمار الذي سيعمّ الأرض.
ذهب فيلم "ذكريات" Reminiscence في المسار نفسه، ولكن بشكل مختلف؛ إذ قدّم لنا مصير الأرض بعد الطّوفان، وسيادة الماء على الأرض، بشكلٍ غير مسبوق، وصادمٍ في واقعيته. حيث نرى البرّ في شكل بضاعةٍ نادرة، لا يملكها إلّا الأغنياء، ما أشعل حروبا على ما تبقّى من يابسة. وإذا كان الأقوياء قد استفردوا بما غنموه من برّ، فإنّ الآخرين اكتفوا بالعيش في مبانٍ تصعد المياه تدريجيا في طبقاتها الأرضية، قبل أن تغمرها كليا، في الانقراض التّدريجي لليابسة.
هذا ليس خيالّا، بل هو أقرب إلينا مما نظن؛ إذ تفيد معطيات أخيرا بأنه ابتداء من السنين العشر المقبلة، ستبدأ الأرض في التلاشي تحت البحر. وستكون الجزر والمدن السّاحلية أول الضّحايا. هكذا وفي "شربة ميّة" ستختفي أجمل أرخبيلات العالم، من المالديف وسيشيل وموريشيوس وغيرها. وستغرق أكبر المدن المحيطة بالماء نهرا أو بحرا، من لندن إلى الإسكندرية إلى دبي إلى نيويورك إلى الدار البيضاء. ومدينة مثل فينيسيا، أو دولة مثل هولندا، هي الأراضي المنخفضة بذاتها، ستكون في مقدمة ما يختفي من يابسة تحت جبروت الماء.

أسوأ ما يحدث لنا لن تُسبّبه الطبيعة، بل البشر؛ فالإنسان أسوأ نتاج الطبيعة، وعدوها الأول

من جهة أخرى، لن يكون الماء الخطر الوحيد على الأرض، بل ينافسه نقيضُه النار؛ فالحرائق التي حدثت أخيرا جزء من تداعيات تضرّر المناخ، وتواصِل الاستغلال المُدمّر للطبيعة والاستهلاك المفرط، وصناعة كل ما يستطيع الإنسان التوصّل إليه من سموم تكفي للقضاء على مجرّة كاملة، إن تم إطلاق كل الأسلحة النووية والجرثومية التي يمتلكها هذا الكائن الجحود للطبيعة، الذي لا يتوقف عن السعي الحثيث إلى وضع اليد على أراضٍ جديدة للبناء.
لهذا، يشكل وحوش العقار أول المحرّضين وأكبر المستفيدين من الحرائق. لينضاف جشعهم إلى غضب الطبيعة، الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة التي تسبّب فيها الإنسان أيضا. ومع ذلك، رأينا كيف أنه في تركيا والجزائر تمّت متابعة أشخاصٍ بتهمة إشعال النّيران. وعلى الرغم من أنّ التهم محاولة لتبرئة المسؤولين عن تدمير البيئة، بإيجاد أكباش فداءٍ محليّين، قد لا يكونون بريئين كلية. إذ إن موجة الحرائق فرصة لوحوش العقار، لاستغلالها بإضافة حريق آخر، سيخدم مصالحهم. في جميع الأحوال والسّيناريوهات، أسوأ ما يحدث لنا لن تُسبّبه الطبيعة، بل البشر؛ فالإنسان أسوأ نتاج الطبيعة، وعدوها الأول. إذ أظهرت صورُ الأقمار الصناعية الملتقطة في موجة الحرائق الماضية انتشارا واسعا للحرائق في عديد من دول حوض البحر الأبيض المتوسط. وعلى عكس الأجزاء الأخرى من العالم، لا تمثّل الحرائق، ذات المنشأ الطبيعي، أكثر من 1% إلى 5% من جميع الحرائق في منطقة حوض المتوسط. وعلى الرغم من أن كثيرا من هذه الحرائق مجهول السبب، إلا أن بعضها يرتبطُ ارتباطا وثيقا بالنشاط البشري؛ إمّا بشكل مباشر، ويتمثّل في تصنيع الفحم أو التدخين، أو حرائق المخيمات أو التي يشعلها المزارعون، أو غير مباشر بوساطة خطوط الكهرباء ومكبّات القمامة. وتُوضح دراساتٌ أن هذه التغيّرات في نشاط الحرائق تُمثل انعكاسا لتأثيرات التغير المناخي التي تتمثّل في زيادة درجات الحرارة وشدّة موجات الجفاف. وتُشير مجموعة من عمليات محاكاة المناخ العالمي للفترة 2010 - 2039 إلى أنّ معظم مناطق نصف الكرة الشمالي اليوم أكثر عرضةً للحرائق من أيّ وقت مضى.

لعل الرحلة السياحية الأولى من نوعها للإنسان نحو الفضاء التي حملت لأوّل مرة أشخاصا ليسوا روّاد فضاء، هي بداية الاستعمار البشري لكواكب أخرى

الغابات رئة العالم، لكن العالم مشغولٌ عن حماية الحق في التنفس بالسّعي خلف المال والبناء، وبتدمير كل ما هو طبيعي، لصالح كل ما هو اصطناعي. ومقابل كل ربح يدسّه في جيبه، يخسر قطعةً من سعادته التي قد تكون في قارّة الروح، حيث تُدمّره الأمراض النفسية الناتجة عن نمط الحياة المعاصر ذي الإيقاع المجنون، أو في جسده ووعائه المادي، بالإصابة بالأمراض السّرطانية والوبائية، وغيرها مما لم يجد له الطب علاجا. حينها، لن يملك أحد لأحد مهربا، ويتضح كم أنّ المال عديم الجدوى، ويودّ حينها أحدُهم لو يعيش حياةً مديدةً في كوخ في الغابات، لكن للأسف لن تكون هناك غابات، غير غابات الإسمنت.
في سعي من عالم آخر، بعد أن بنت مدينة دبي جزرا صناعية، بدأت تخطّط لتبني أبراجا معلقة. هل يمثل هذا أحد الحلول؟ هل غاب المنطق عن الإنسان إلى هذه الدرجة، حتى يحرق الأرض، ويضطر إلى البحث عن سكنٍ في السماء القريبة أو البعيدة؟ لماذا لم يحافظ على الأرض، ويوفّر على نفسه وبقية سكان الكوكب العناء المقبل؟ ولعل الرحلة السياحية الأولى من نوعها للإنسان نحو الفضاء التي حملت لأوّل مرة أشخاصا ليسوا روّاد فضاء، هي بداية الاستعمار البشري لكواكب أخرى. ألم تبدأ كلّ تجارب الاستعمار في تاريخ البشر برحلة استكشافية، يتلوها غزوٌ يحوّل المستعمرات وسكّانها الأصليين إلى ملكية المستعمر الذي يعتبر كل ما وصل إليه مِلكا له؟

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج