"هيومان رايتس واتش" وتجريم المقاومة الفلسطينية
لمنظمة حقوق الإنسان الأميركية، هيومان رايتس واتش، سجلٌّ مهمٌّ ومتناقض حيال حقوق الشعب الفلسطيني، لكن تقريرها الذي أصدرته الأسبوع الماضي، وجرّم كل فصائل المقاومة الفلسطينية، شكّل نقطة فارقة خذل مؤيديها، وفاجأ حتى أكثر منتقديها حدّة. وليست مشكلة التقرير فقط في إدانته شبه القطعية لكل التنظيمات الفلسطينية، وإنما بإعادة تدوير ادّعاءات إسرائيلية وتقارير صحافية غربية دحضها إعلاميون وقانونيون غربيون.
يجب الإقرار بأن المنظمة المذكورة ساهمت بتقارير مهمّة تفضح الجرائم الإسرائيلية، بل تبنّت وصف النظام الصهيوني ضد الفلسطينيين بالأبارتهايد، لكن سجلّها لا يخلو من كبوات وسقطات مهادِنة لإسرائيل والسياسة الأميركية. غير أن تقريرها في 17 يوليو/ تموز الحالي جاوز كل قواعد عملها، بل بَدت "هيومان رايتس ووتش" فيه أنها تحاول التعويض عن أي دور لها كان في كشف خروقات إسرائيلية حقوق الإنسان الفلسطيني، إذ يبدو أنها، وهي التي تعتمد على تمويل أفراد ومؤسّسات وحكومات، قد خضعت لضغوط غير مسبوقة، وهذا لا يبرّرعدم التزامها بمبادئ عملها، لكنه يبرهن على شراسة الحملة الصهيونية والأميركية ضد الشعب الفلسطيني.
يشي التقرير، فيما يبدو، بأن هناك نية تجريم ممنهج ليس لحركة حماس فحسب، بل أيضاً لكل الفصائل، بما فيها حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، فبالإضافة إلى إعادته التُّهم الإسرائيلية، ادّعى التقرير أن خمسة فصائل على الأقل شاركت في الهجوم الأول لعملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر) بدون تمحيص أو بحث حقيقي.
لا يُنكر دور "هيومان رايتس ووتش" في التضامن مع مظلومين وضحايا في أنحاء عديدة، لكن ذلك لا يشفع لها فشلها في إصدار تحقيق نزيه وجّهت به ضربة إلى كل الفلسطينيين وأنصار حقوق الإنسان
ما يريده هذا المقال من رصد إهمال المنظمة الحقوقية في التأكّد من معلوماتها ليس التمييز بين الفصائل أو تبرئة أيٍّ منها أو تجريمها، ولكن إذا لم تكن المنظمة تهتم بمعرفة من شارك أو لم يشارك في الهجمة الأولى، وهي مسألةٌ سهلة، فقد فوجئت كل الفصائل بخرق 7 أكتوبر، فهذا يعني تقصيراً أو تجاهلاً مقصوداً، فالغرض هنا هو تجريم فكرة المقاومة. والأسوأ أن التقرير وضع الفصائل التي انضمت إلى مقاومة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في وضع لا تستطيع نفي مشاركتها في الهجوم الأول؛ لأن ذلك يعني الوقوع في عزل "حماس" وشيطنتها، إضافة إلى أن أي تجريم لهذه الحركة هو تجريم للمقاومة الفلسطينية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
وإذا كان الإهمال الذي لا يمكن إلا أن يكون مقصوداً، لمنظمة لديها الخبرة في التقصّي والبحث، سقطة في بداية التقرير، فإن ما يليها فيه يكشف محاولةً متعمّدة لإثبات الرواية الإسرائيلية الرسمية لما حدث في 7 أكتوبر، فالتقرير أُعلن، بعد نحو تسعة أشهر على بداية الحرب، وبعد تفنيد ادّعاءات إسرائيلية كثيرة وثبوت عدم صدقيتها، فجاء ليعيد تثبيتها في وعي الرأي العام في لحظة بلغت وحشية إسرائيل في تعذيب وقتل جمعي وفردي لفلسطينيين بكل الوسائل، من تقطيعهم ودفنهم أحياء وإطلاق الكلاب لنهش أجسادهم وهم أحياء.
الأبرز في سقطات التقرير إحياء مزاعم ارتكاب مقاتلي "حماس" عنفاً جنسياً ضد إسرائيليات في عملية 7 أكتوبر، وهي حكاية جرى دحضها مرّات
المفارقة أن "هيومان رايتس واتش" أطلقت تقريرها في الأسبوع الذي صعّدت إسرائيل من عمليات القتل، وفي وقتٍ تناقلت وسائل الإعلام قصة الطفل أحمد بهار المُصاب بمتلازمة داون الذي نهشته كلابٌ يستخدمها الجيش الإسرائيلي حياً وتركه جنود الاحتلال حتى مات، وكأنها محاولة للتغطية على فداحة المجازر الإسرائيلية، بالرغم من أن هناك خبراء مختّصين يعملون لدى المنظمة قد لا يقبلون مثل هذا التقرير وتوقيته، ما يدلّ على إصرار قيادة "هيومان رايتس واتش" على اعتماده ونشره وتوزيعه.
الأبرز في سقطات التقرير إحياء مزاعم ارتكاب مقاتلي "حماس" عنفاً جنسياً ضد إسرائيليات في عملية 7 أكتوبر، وهي حكاية جرى دحضها مرّات، بل أحدثَ تقرير "النيويورك تايمز" عن عمليات الاغتصاب فضيحة كبيرة لها، وهي الصحيفة الأميركية الأهم، فمن توظيف صحافية إسرائيلية مؤيدة لحرب الإبادة في كتابة التقرير إلى شهود لم يثبُت وجودهم، وصدور تصريحات من إسرائيليين من كيبوتس بئيري تنفي حدوث عمليات اغتصاب في صباح ذلك اليوم، بل إن خمسين أستاذاً للإعلام في الجامعات الأميركية الأهم وجّهوا رسالة انتقدت انعدام مهنيّة التحقيق وغياب النزاهة فيه، حتى إن أساتذة من هؤلاء اتهم الصحيفة بمحاولة تبريرها الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ولكن "هيومان رايتس واتش" اختارت أن تردّد الادّعاءات بدون أدلّة جديدة، وكأنها تُرضي جهةً ما. صحيحٌ أنها ليست المرّة الأولى التي تحابي فيها المنظمة الرواية الاسرائيلية. ولكن، لم يحدُث من قبل أن أصدرت تقريراً بهذه الفجاجة والتسييس والانحياز إلى صالح إسرائيل.
مثال آخر، تجاهل التقرير الاعتراف الإسرائيلي بأن الجيش الصهيوني طبّق "بروتوكول هانيبال"، أي قتل الإسرائيليين إذا كان هناك خشية من وقوعهم في الأسر، ما أكّد رواية إسرائيليين من سكان الكيبوتسات ومدن جنوبية أن الجيش قصف وحرق وقتل متعمّداً إسرائيليين، ثم اتهم "حماس" بذلك. وعدم إشارة "هيومان رايتس ووتش"، من قريب أو بعيد، إلى الاعتراف الإسرائيلي يؤكّد إصرار قيادتها على تجريم الفلسطينيين، حتى وإن صرّحت المسؤولة التنفيذية فيها إن ذلك لا يبرر "الحرب الإسرائيلية" على غزّة.
أن تنحاز "هيومان رايتس واتش" إلى إسرائيل في أصعب لحظة منذ بداية الحرب على غزّة يجعلها، عن قصد أو غير قصد، في جانب المجرم الإسرائيلي
لا نعلم ما إذا كانت المنظمة الحقوقية ستراجع نفسها، فالفلسطينيون يقبلون بتحقيق نزيه ومستقلّ، ولكن أن تنحاز "هيومان رايتس واتش" إلى إسرائيل في أهم لحظة وأصعبها منذ بداية الحرب يجعلها، عن قصد أو غير قصد، في جانب المجرم الإسرائيلي. وإن لا يُنكر دور المنظمة في التضامن مع مظلومين وضحايا في أنحاء عديدة في العالم، لكن ذلك لا يشفع لها فشلها في إصدار تحقيق نزيه وجّهت به ضربة إلى كل الفلسطينيين وكل أنصار حقوق الإنسان في العالم، علمت أم لم تعلم.
لا نلوم كل من يعمل في المنظمة، لكن من الصعب تقبل ما فعلته قيادتها، فهو مدان، وكأن الفلسطيني في حاجة إلى ضربات جديدة. وهنا يجب أن نتذكّر أن التقرير لا يستطيع أن يجرّم المقاومة الفلسطينية، حتى لو أضرّ بها، فالمقاومة حقٌّ مشروع لكل الشعوب التي ترزح تحت احتلال أجنبي، وهناك فرق بين تحقيقٍ يتحدّث عن تجاوزات حقوق إنسان قانونية تنطبق على حركات المقاومة وبين الدخول في معركة الإبادة ضد الفلسطينيين.
في النهاية.. ما نشهده حملة ترافق حرب الإبادة وردّة فعل على صمود الشعب الفلسطيني ونجاحه في اختراق الرأي العام العالمي، وفضح زيف السردية الصهيونية، وانتصاراته التاريخية في محكمة العدل الدولية. وجزء من دورنا وواجبنا، نحن الإعلاميين والمثقفين والناشطين، أن نفضح محاولات تجريم المقاومة بدون أن نهتزّ أو نتراجع، أو نخشى قول الحقّ، فبوصلتنا هي كل دمعة لطفل فلسطيني منكوب وكل صرخة أم وأب من قلب منفطر، وكل شهيد يلاحقنا شبحُه ويدمينا فقدانه.