هيا نخترع شعبًا مصريًا جديدًا
صحيحٌ هو حراك أشبه بمحاولة كتلة من البشر النجاة من غرق أو حريق، أو قل هو صرخة ألم، تطلقها الجماهير بوجه من كانوا يراهنون عليه، فتبين لهم أنه يفتري عليهم.
حراك صغير ومحدود ومتناثر هنا وهناك؟ وهو كذلك، لكنه أثمر وحقق ما يمكن اعتباره أول انتصار شعبي للمصريين على نظام القمع والجباية الذي يحكمهم بالحديد والنار والدبابة والجرافة، إذ هي المرة الأولى، ربما، التي تطلب فيها سلطة عبد الفتاح السيسي التهدئة، وتعلن من طرف واحد وقف عملياتها الحربية ضد المجتمع المصري، وتدفع رئيس الوزراء ليدلي بتصريحات تحمل تراجعًا عن سياسة القوة الغاشمة، الغشوم، التي يتعمّدها السيسي أسلوبًا وحيدًا للحوار.
نزل السيسي من فوق الجرافة، وتوارى إلى الظل، لأول مرة، مقدّمًا مصطفى مدبولي (هل كتبت اسمه صحيحًا؟)، ليقول: لن نهدم أي عقار مأهول بالسكان.. وجهنا المحافظين لمراعاة البعد الاجتماعي في التصالح على مخالفات البناء.
باختصار، توقفت حرب الإبادة مؤقتًا، لتعفي جيش مصر من عار تاريخي، يتمثل في العبث بدور المقاتل، ليكون مطلوبًا منه، بدلًا من أن يحارب العدو بالدبابة، أن يهاجم أهله وناسه بالجرافة.
هذا الجنون توقف، سواء كان توقفًا تكتيكيًا، أم قرارًا استراتيجيًا برفض التورّط فيما أعلنه السيسي قبل أكثر من أسبوع، وهو يهدّد الشعب المصري بإرسال الجيش إلى القرى والمدن ليكي يهدم البيوت على رؤوس أصحابا، إن لم يدفعوا له الجباية.
ولعل أروع ما في هذه الهبَّة أو"ثويرة الغضب" المباغتة بمناطق متفرقة في مصر أنها تلقائية وعفوية، من الناس وللناس، يكذب من يدّعي أنه يحرّكها عن بعد، ويؤذيها ويؤذي أصحابها كل من يحاول القفز عليها وركوبها ، أو ادّعاء وصاية أو توجيه أو إدارة.
هو حراك اجتماعي واحتجاجات مطلبية، تشبه تلك التي مارسنا عليها استعلاء سخيفًا أيام ثورة يناير 2011 وأسميناها "مطالب فئوية"، وصادرنا حق أصحابها في التعبير عنها والتظاهر من أجلها، بحجة أن من شأن ذلك أن يعطّل مسيرة الثورة .. فماذا حصل؟
كانت النتيجة أن الثورة خسرت قطاعات واسعة من الجماهير، كانت تمنّي النفس بأنها سوف تتخلص من الأوجاع الاقتصادية والمظالم الاجتماعية (الفئوية)، بعد أن أزاحت رأس النظام، لكنها فوجئت بأن الثورة تنظر لها بغير اهتمام أو احترام، وتسفّه من مطالبها البسيطة، أجور أو مشكلات بناء أو وظائف، فتحولت شرائح كثيرة من هذه الفئات إلى اتخاذ موقف سلبي، أو بالحد الأدنى محايد، من الثورة، وانتهى الأمر بأن هؤلاء الموجوعين الفئويين المطلبيين صاروا وقودًا للثورة المضادّة.
ما يدور في مصر الآن غضب احتجاجي، محوره الموضوع الواحد والمطلب الواحد: النضال من أجل الاحتفاظ بالمسكن والمأوى، بمواجهة سلطةٍ تعتلي الجرّافة، وتعربد هدمًا وتدميرًا وتشريدًا، بزعم إزالة المخالفات وتصحيح الأوضاع.
وبعيدًا عن أن هذه السلطة بحد ذاتها هي أكبر مخالفة سياسية وأخلاقية وإنسانية قائمة في مصر، فإن غضبة الجماهير هي صورة من صور الثورة، وإن كانت لا ترفع شعارات كبيرة، أو تتمثل قيمًا وأفكارًا فلسفية ضخمة، بل هي بكل بساطة وعفوية تناضل من أجل بقائها ووجودها على أرضها، وتقاوم محاولة اقتلاعها من جذورها، وهذا من صميم الثورة، بوصفها حركة مجتمع ضد الإبادة والإزالة .. وهذا وحده يكفي للتضامن والتعاطف والدعم، حتى لو كان الغاضبون ضد تغوّل السلطة اليوم مؤيدي استبدادها وطغيانها بالأمس.. حتى لو كان هؤلاء من الذين صفقوا وغنوا ورقصوا لانقلابٍ ظنوه ثورة، تحت تأثير مخدّرات روّجها بينهم محترفو سياسة وإعلام.
الثابت يقينًا، من واقع حركة التاريخ، أن لا تغيير ولا ثورة إلا بالشعب، الشعب كما هو عليه، بأحواله ومواصفاته هذه، فحن لن نخترع شعبًا جديدًا، ولن نستورد شعبًا آخر يثور أو نصنع به ثورة. ومن ثم فإن الاستمرار في جلد الشعب بسياط الشماتة والتشفّي والتقريع على أخطائه السابقة التي جعلته، بجهل أو بانتهازية أو بسوء تقدير، من أسباب الخراب الذي تردّت فيه مصر، لا يخدم إلا السلطة القائمة، ولا ينتج إلا مزيدًا من الضعف والعجز والاستسلام وتكريس الوضع القائم.
وهي النغمة ذاتها التي تردّدت في أثناء تظاهرات الخبز مارس/ أذار 2017 وكأن هناك من يصرّ على مضاعفة محصول العجز واليأس في التغيير، بينما ينطق الواقع إن الشعب حين يريد يكون أقوى من جرّافة السلطة.