هيا بنا نخلد إلى النوم
تابعت، أخيرا، مسلسلًا كوميديًّا من الإنتاج الدرامي لهذا العام الكئيب، حلقات متصلة منفصلة، ويتناول حكاية صديقين قرَّرا افتتاح شركةٍ خاصةٍ بهما، مهمَّتُها كشف غموض بعض الخوارق التي ترتبط بالأساطير والخرافات، مثل حوادث الاختفاء الغامضة خلف باب سرِّي يفضي بك إلى عالم مُوازٍ، وغيرها من تلك الظواهر التي لم يتوصَّل العلم إلى تفسير لها، ولكن السينما والدراما استغلّتا ما يروَّج عنها، في أفلام ومسلسلات مثيرة وجاذبة للمشاهدين، وستبقى كذلك حتى يكشف العلم اللثام عنها.
دعك من هذه الظواهر الغامضة المثيرة، فما لفتني أنَّ البطل الرئيسي في المسلسل، وكلما كان يوشك على دخول مكانٍ مرعب، يلفُّه الغموض، ويوحي بأن ما فيه يفوق تصوُّره، او تخيَّله، وربما لا تكتب له العودة منه، فهو يتحجَّج لصديقه بحجَّةٍ مضحكة، وقد استخدمتُها مع أولادي، طوال متابعة حلقات المسلسل التي لم تزد عن خمس عشرة حلقة، فكلما كان البطل "جمجموم"، والذي يرى نفسه شجاعًا وذكيًّا، على وشك أن يتعرَّض لموقف متوقَّع، فماذا تتوقع لرجل يتعامل مع الأشباح والأرواح والعفاريت، هل تتوقع أنه سوف يجد نفسه في حديقة غنَّاء مع جميلاتٍ حِسان، ولذلك فهو يردّد عبارة مضحكة لزميله في الشركة "أنا عايز أروح أجيب فينو لأبوية"، وهكذا أصبحت هذه العبارة الثِّيمة التي يردِّدها البطل، مع كل مواجهةٍ مع الغموض والإثارة.
بتُّ أردد لأولادي عبارة البطل جمجوم، كلما قرأت خبرًا مفزعًا، أو عند حدوث موقفٍ لا يحتمل في الجوار. ولم أعد أقول لأعبِّر عن خوفي، أو حزني، أو استهجاني، سوى عبارة أخرى أكثر صدقا: هيا بنا نخلد إلى النوم. وفي الحقيقة، أنت تكتشف أمام هذا الكم المتلاحق من الأخبار والأحداث، وتلك المفاجآت والصدمات التي تضرب رأسك، وتوجع قلبك، أنك بحاجة إلى النوم. لا وسيلة أمامك للهرب، أو المواجهة، أفضل من النوم. ونفسياً هناك حالة تؤدّي بالإنسان، عند عجزه عن المواجهة، أو الاصطدام بالواقع المؤلم، إلى الدخول في حالةٍ تعرف بالغيبوبة التحوُّلية، وهي تشبه النوم، ولكن لمدة طويلة، ولا يستجيب الإنسان لأيِّ منبِّه خارجي، ولا يتناول الطعام أو الشراب، ويحتاج لرعاية طبية، حيث قد تستمر الحالة لأشهر أو سنوات. ويبدو أن كثيرين يعانون من حالةٍ تشبه الغيبوبة التحوُّلية، بدرجة أقل، وهي النوم فترات طويلة، مثل التلميذ الذي ينام عند اقتراب موعد الامتحانات ساعاتٍ طويلة، لعدم قدرته على المواجهة، وأنت حين تهرُب إلى النوم، فأنت تأمل بأن شيئًا قد يتغيَّر، ولكنك تفيق وتكتشف أن الحياة ما زالت قاسية، وأن جذور الشر ما زالت تتمدَّد، وتتفرّع، وتتشعَّب في أنحاء المعمورة، ولم يعد منه خلاص، ولا قدرة للأنقياء والبسطاء في مواجهته. بل وتكتشف أنَّ شخصًا ما كان يقوم بدور الملاك الحارس لمن حوله، قد تحوَّل إلى مجرم؛ فتصعق ولا تجد ما تعبِّر به، سوى أن تهتف بمن حولك، وأنت تقف نافضًا ثيابك، متعلِّلًا بعبارة: "أنا ذاهبٌ إلى النوم"، وأنت تتمنَّى لو تمنَّى لك الآخرون أن تنام مثل نوم أهل الكهف.
يقول قائل: الشر قديم قدم البشرية، ولكنه الآن أصبح مكشوفًا. ولم يتوقَّف البشر عن إيذاء بعضهم بعضا، منذ الأزل، ولكن الأخبار التي يجري تناقلها بسرعة، بمجرَّد حدوثها، وتحوَّل العالم، بفضل وسائل الاتصال الحديثة، إلى قرية صغيرة، يجعلك تشعر بأن الحياة أصبحت موحشة ومتوحشِّة، وأن الخير قد ذاب وتلاشى. ولكن الحقيقة، يا رفيق، أنك قد أصبحت هشًّا، ولم تعد تحتمل الوجع من قريبٍ أو بعيد، وربما تقدَّمت في العمر؛ فترغب ببعض السلام، وقد تكون أكثر تفاؤلًا، مثل بطل المسلسل "الشركة الألمانية لمكافحة الخوارق"، فتتذرَّع بضرورة الذهاب لشراء خبز "الفينو" لأبيك، هذا الأب الذي لم يكن أبًا مثاليًّا بالطبع، ولكنه أصبح اليوم وسيلةً وذريعةً للهرب من عالم مليء بالخوارق التي لا تقوى على مواجهتها، أو حتى تصديقها، ولا التعايش معها.