هوامش سياسية على التفجير في إسطنبول
أول ما تبادر إلى الأذهان عند حدوث الانفجار، أول من أمس الأحد، في شارع استقلال في ضاحية تقسيم في إسطنبول، أن تركيا تمرّ بفترة حسّاسة ما قبل الانتخابات المقبلة المزمع عقدها بعد سبعة أشهر، والتي من شأنها أن تحدّد مصير البلاد. ظهرت في المقدّمة جهتان لديهما القدرة على تنفيذ الهجوم، حزب العمال الكردستاني والتنظيمات السلفية الجهادية مثل الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة وأخواتهما. وأكبر علامة على أن الهجوم كان عملاً إرهابياً منذ اللحظة الأولى فرض السلطات التركية حظراً مشدّداً على وسائل الإعلام التركية ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن ساعات من الإبطاء في صفحات التواصل الاجتماعي، في تويتر وفيسبوك ويوتيوب. لم يتمكّن المستخدمون من تسجيل الدخول إلى حساباتهم عليها لساعات. وهذه ليست المرّة الأولى التي تتخذ فيها الحكومة مثل هذه التدابير، فقد سبق أن اتخذت إجراءات مماثلة مرات من قبل، ولكنها لم تصل إلى هذا المستوى من التشديد. وقد أعلن الرئيس أردوغان قبل مغادرته إلى إندونيسيا أن عدد القتلى ستة. وفي وقت لاحق، أعلن محافظ إسطنبول أن عدد الجرحى ارتفع إلى 86. وصرّح وزير الداخلية التركي تاليا بأنه جرى القبض على مشتبه به أو مشتبه بها من دون تقديم أي تفاصيل عن هويته، ما أشاع تصورا لدى بعضهم أن هذه لم تكن سوى من أجل كسب الوقت للتخلص من الانتقادات من الرأي العام.
وفيما يخص الخلفية السياسية والعسكرية للانفجار، يمكن القول أنه وقع في وقت كانت قوات الأمن التركية تقوم بعمليات عسكرية مكثفة في المناطق التي تتركّز فيها الجماعات المسلحة، وخصوصا حزب العمال الكردستاني، في كل من سورية والعراق، فيما لم تحدث أعمال إرهابية منذ مدة طويلة في الداخل التركي، باستثناء الاعتداء المسلح على مركز الشرطة في مدينة مرسين في الجنوب التركي قبل 47 يوما. بالإضافة إلى ذلك، كانت السلطات قد ذكرت أنه جرى تنفيذ عمليات ناجحة ضد كل من حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية في المناطق الحدودية. ولم يبق في الداخل التركي سوى عدد قليل جدًا من مقاتلي التنظيم، في ظل الضربات القاتلة وُجّهت من خلال عمليات عبر الحدود، وتقلصت قوة حزب العمّال الكردستاني في البلاد وتراجعت بشكل دراماتيكي. ولذلك، على الرغم من أن هناك احتمال أن الحزب هو من ارتكب هذا العمل الارهابي، إلا أنه احتمال ضئيل، كما يُعتقد. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أنه نادرا ما نفذ بعض الهجمات ضد أهداف مدنية، إلا أنه لم يكن من المتوقع أن يقوم بعمل إرهابي في "تقسيم"، أو في أي مكان آخر، لأن هذه الهجمات لا تخدم مصالحه، خصوصا في هذا التوقيت.
يعتقد أشخاص غير قليلين في تركيا أن الهجوم في شارع الاستقلال في "تقسيم" في إسطنبول ربما ارتكبته تنظيمات سلفية جهادية
وعلى الرغم من أن علاقات الحكومة مع حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، الذي يُعتقد أنه الجناح السياسي لحزب العمّال الكردستاني، كانت متوترة بشكل عام منذ عام 2015، إلا أن زيارة نواب حزب العدالة والتنمية كتلته البرلمانية قللت من هذا التوتر إلى حد ما. وفيما كانت حكومة "العدالة والتنمية" قد أكّدت صلة قوية بين "الشعوب الديمقراطي" بالإرهاب، فإنه جرى اعتبار تلك الزيارة خطوة نحو تحسين علاقة الائتلاف الحاكم مع هذا الحزب قبل الانتخابات. ومن ناحية أخرى، اعتبر كثيرون أن هناك نية لدى الحكومة لإعادة الانفتاح الديمقراطي لحل المكشلة الكردية، بعد أن دشّنت الحكومة محادثاتٍ مع زعيم حزب العمّال الكردستاني، عبد الله أوجلان، منذ عام تقريبًا بشكل سرّي. وبشأن التوقيت، هناك تقييمات مختلفة من مجموعات ذات توجهات سياسية مختلفة. واعتبرت الشريحة الواسعة من المتخصّصين، بمن في ذلك بعض الصحافيين والكتّاب المقرّبين من الحكومة التركية، أنه في حال صحّ أن هذا الهجوم ارتكبه حزب العمال الكردستاني، فإنه كان محاولة لتقويض عملية بين الحزب الحاكم وحزب الشعوب الديمقراطي لعرقلة الطريق أمام انفتاح ديمقراطي.
من ناحية أخرى، يعتقد أشخاص غير قليلين في تركيا أن الهجوم في شارع الاستقلال في "تقسيم" في إسطنبول ربما ارتكبته تنظيمات سلفية جهادية. وكان الرئيس أردوغان قد صرّح، في أغسطس/ آب الماضي، بأن العلاقات الدبلوماسية مع الحكم في دمشق يمكن تطويرها وتطبيعها، ثم كان متوقعا أن تنعطف أنقرة إلى في مسار جديد في سورية. وبالإضافة إلى ذلك، دخلت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) عفرين، وأبقت مقاتلين منها هناك، في خطوة جرى تقييمها أنها جزء من عملية تركيا في الشمال السوري، لتوحيد صفوف فصائل المعارضة التي من المفترض أن تستعد للتوصل إلى أي اتفاق مع دمشق، أو لترتيب صفوف جماعات المعارضة التي لا تريد المساومة مع دمشق. رغم هذا التعامل والتعاون مع هيئة تحرير الشام، كان لأنقرة موقف مختلف تجاهها داخل البلاد. وجاءت أنباء وكالة الأناضول عن تحقيقٍ بمبادرة من مكتب المدّعي العام في أنقرة عن تنظيم إرهابي مسلح لهيئة تحرير الشام. ووفقا لهذا النبأ، صدرت أوامر اعتقال بحق 11 مشتبهاً بهم تبين أنهم يعملون ضمن تنظيم إرهابي مسلح لهيئة تحرير الشام، ومرتبطون بمناطق النزاع. وورد في الأخبار أن فرع مكافحة الإرهاب في شرطة أنقرة اعتقل تسعة من المشتبه بهم في العمليات التي نفذتها فرق المديرية. ويفيد هذا التطور بأن أنقرة بدأت في زيادة الضغط على هيئة تحرير الشام، ليس فقط في سورية، وإنما أيضًا في الداخل التركي. لذلك، ربط هجوم تقسيم بهيئة تحرير الشام ربما يكون مقنعا، وإنْ ليس تمامًا.
حظر النشر الحكومي عن التفجير يهدف إلى منع انتشار الذعر بين الناس، إلا أن استمراره مدة طويلة قد يتسبب في تعميق علامات الاستفهام
أما عن احتمال تنفيذ "داعش" هذا الهجوم، فلا يخفى على أحد أن قدرته على العمل تراجعت بشكل كبير، بسبب الضربات التي تلقاها في كل من العراق وسورية. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يقول إن قدرته، وإنْ كانت محدودة، قد اختفت تمامًا في تركيا. ومع ذلك، لا يوجد ما يشير إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية قد نفذ هذا العمل.
لذلك، لن يكون ممكنا قول أي شيء محدّد عمن وراء هذا الاعتداء الإرهابي في إسطنبول حتى تأتي البيانات الرسمية وتظهر أدلة حقيقية. وقد جاء العمل الإرهابي في ظل الصعوبات الاقتصادية لتركيا وجو متوتر بسبب الاستقطاب السياسي الحاد قبل الانتخابات، الأمر الذي يجلب معه علامات استفهام عديدة مربكة. على الرغم من أن حظر النشر الحكومي يهدف إلى منع انتشار الذعر بين الناس، إلا أن استمرار هذا الحظر مدة طويلة قد يتسبب في تعميق علامات الاستفهام.