هنا ثورة يناير
ما الذي يجعل من ثورة يناير هاجساً لدى عبد الفتاح السيسي؟ ما الذي يجعلها حاضرة، رغم هزيمة أصحابها، مزعجة رغم موتهم، وقتلهم، وإخفائهم قسرياً، واعتقالهم، وتشريدهم؟ ما الداعي لتشويهها ووصمها والتحذير من تكرارها؟ هنا ثورة يناير، الزمان والمكان، والشخوص (حاضرون في الغياب). لا يتعلق الأمر برومانسيتنا الأولى، رحمها الله ولا أعادها، إنما بواقع يومي، ترصده السلطة، ربما أكثر من فاعليه، وتعي خطره، واستمراره، وتجابهه بترسانةٍ من الأبوية والتجهيل والقبح، وتعطّل حركته، لكنّها تفشل في إيقافه.
كانت يناير، ولم تزل "مشروع جيل" للدخول إلى التاريخ، استعادة الزمن، التحرّك من مرحلة ما قبل الدولة إلى الدولة، ما قبل الحداثة إلى الحداثة، من العدم إلى الوجود، كانت استئنافاً لمشروع محمد علي، وثورة 1919، بعد إجهاضهما، مرة في 1936، بتوقيع معاهدة الاعتراف بالوجود البريطاني، وأخرى بـ"عسكرة حلم الاستقلال"، مع ضباط يوليو (1952)، وثالثة بتوقيع كامب ديفيد (1978)، والخروج من التاريخ والجغرافية معاً، طرحنا سؤال السياسة وأخطأنا في إجابته، مرّة حين فشلنا في تقديم مرشّح، أو مشروع، ثوري، فذهبت إلى الإخوان المسلمين، وأخرى حين فشل "الإخوان" فعادت إلى العسكر، إلا أن أسئلة أخرى طرحتها يناير بشكل صحيح، وما زالت تجيب عنها، وتسود أوراقها، الواحدة تلو الأخرى، رغم كل محاولات الرقيب الفاسد في تشتيتها وعرقلتها.
تعالوا نرجع قليلاً .. هل نجحت ثورة 1919؟ الإجابة نعم، لكن كيف؟ لم يرحل الإنكليز، لم يتحوّل الإعلان عن رفع الحماية واستقلال مصر وسيادتها في 1922 إلى واقع عملي، لم يجب ثوار 1919 عن سؤال الاستقلال (الإجباري)، فكيف نجحت؟ قبلها لم يكن ثمّة دولة، بالمعنى الحديث، تأسست الدولة مع محمد علي، ودخلت إلى التاريخ واقعاً عملياً واجتماعياً وسياسياً في 1919… شهادة ميلاد المواطن، المجال العام السياسي، المشروع القومي، الحياة النيابية، الحكومات المنتخبة، الملكية الدستورية، منجزات 1919 التي أنتجت، بدورها، مبدعين في شتى المجالات، السينما والمسرح والغناء والموسيقى والرواية والشعر، ناهيك عن المعارف الدينية والفلسفية. أعادوا، جميعا، صياغة الوجدان المصري بما يتفق مع الثورة، ومشروعها، كما أرادوه، ومستقبلها، كما تخيلوه. تعرّضت 1919 لانتكاستين، الأولى في الاعتراف بالوجود الشرعي للاحتلال البريطاني في معاهدة 1936، والثانية نتيجة لها، وهي انقلاب الضباط 1952. وعلى الرغم من ذلك، فإنها، (ثورة 1919) حاضرة في الوجدان المصري، بمنجزها ومطالبها وغدها الذي لم يأتِ بعد، وما يناير 2011، وما سبقها من انتفاضات شعبية، سوى محاولات لاستدعاء مشروع 1919، دولة مدنية ديمقراطية حديثة "مستقلة"، واستعادة للحظة الزمنية، على المستويات كافة.
يناير، بدورها، لم تزل (لسّاها)، ماثلة في محاولاتنا اليومية والمتكرّرة للتحديث، واستدعاء "كلّ شيء" إلى طاولة النقد، والمحاسبة، وعدم التسليم. متدينون، رغم تدينهم، يرفضون الإسلام الوراثي، ويبحثون عن دينهم، ويعيدون اعتناقه، بتعبير مراد هوفمان، سياسيون يتمرّدون على تراث آبائهم الأيديولوجيين، ويعيدون بدورهم فرز أفكارهم، واختبار ولاءاتهم الأولى، فنانون، مثقفون، كتّاب، نقاد، معركة طاحنة، يومية، يخوضونها مع ممثلي ما قبل الدولة، لانتزاع حقوق النقد والتجريب والخطأ، لا يعني ذلك أن انتصارا قد تحقّق، إنما يعني أن المعركة التي توهمنا نهايتها، لفشلنا، المؤقت، في إجابة سؤال السلطة، ما زالت باقيةً على جبهات أخرى، ترصدها الدولة، وتتحرّك ضدها بكل ما تستطيع، رافضة، بشكل قطعي، التحديث، بكل أشكاله، في الوقت الذي لا تكفّ فيه عن تصدير خطاباتٍ تزعم مقاومة القدامة والأصولية (بدلالاتها السلبية) والتطرّف الديني، بل وتتجاوز إلى ادّعاء أنّها دولة مدنية وديمقراطية، قدر ما تحتمل خصوصيتنا الدينية والثقافية. هنا يناير، حيث الترجمة عمل ثوري، الكتابة عمل ثوري، النقاش حول فيلم سينما، رواية، مقال، استدعاء إضاءات الماضي في مواجهة ظلماته عمل ثوري. ما زال الوقت وقتاً، وما زلنا نحاول، وما زال خصوم المستقبل بدورهم يحاولون، ابتداءً من "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع" وحتى عمرو أديب وأحمد موسى وهاني شاكر وعبد الله رشدي… وتلك الأيام نداولها بين الناس.