هناك داعٍ للهلع
تسخر روسيا، عبر مسؤوليها، من جميع التصريحات والتقديرات التي تحدثت عن موعد غزو أوكرانيا في 16 فبراير/ شباط الجاري. وتكرّر أنها لن تغزو أوكرانيا إلا مضطرّة، وتكاد تستخدم عبارة "لا داعي للهلع" لمحاولة التقليل من المخاوف.
وبالفعل، مرّ موعد 16 فبراير من دون أن تزحف جحافل القوات الروسية التي تطوّق الحدود الأوكرانية إلى داخلها. لكن هل فعلاً لا داعي للهلع؟ تقول المؤشّرات عكس ذلك. ليس التشكيك الغربي بنوايا روسيا، بما في ذلك إعلاناتها المتكرّرة في اليومين الماضيين عن سحب ألوية وعتاد من الحدود بعد انتهاء التدريبات، في غيره محله. أقلّه صور الأقمار الصناعية لا تكذب، فهي ليست محلّ تأويل كتصريحات السياسيين والعسكريين. وتشير هذه الصور بوضوح إلى عدم تسجيل تراجع جوهري في العتيد والعتاد. الأهم من ذلك أن أي تراجع روسي حقيقي عن الغزو ورفع اليد عن الزناد لن يحدُث ما لم تحقق مطالبها أو الحد الأدنى منها مِن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
قالها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، صراحة بينما كان يقف إلى جواره المستشار الألماني، أولاف شولتز، في مؤتمر صحافي دام نحو ساعة. تريد موسكو حسم عضوية أوكرانيا في الحلف بشكل سريع ونهائي ومرة واحدة. الحلول الوسط التي يلمح لها الغرب، بشأن تأجيل طرح ضمها لـ"الناتو"، على قاعدة أن أوكرانيا ليست عضواً حالياً، لا تبدو كافية.
وبقدر ما أبدت كييف انزعاجها من هذا الطرح بقدر ما كانت موسكو تشير إلى عدم استعدادها لقبوله. بالنسبة إليها، أي سماح للحلف بالتمدّد في حديقتها الخلفية أمر غير مسموح مهما كلّف الأمر، وهو ما ظهر بوضوح في الضمانات التي طلبتها روسيا، سواء من الولايات المتحدة أو الحلف، ومنها أن "منع امتداد الناتو شرقاً وعدم انضمام دول من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي إلى الحلف". ويضاف إلى ذلك "امتناع دول الناتو الموقعة على الاتفاقية عن ممارسة أي أنشطة عسكرية في أراضي أوكرانيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى".
عملياً، تريد روسيا تكبيل الحلف وواشنطن؛ أي الحصول على الكثير مقابل تقديم القليل من التنازلات .. وإلا فالغزو. وهي أثبتت أنها لا تأبه، أقلّه علناً، بأي تهديداتٍ، خصوصاً أن لها تجربة قبل سنوات، عندما ضمّت شبه جزيرة القرم، ودعمت الانفصاليين في الشرق الأوكراني، والذين تلّوح اليوم، عبر مجلس الدوما بالاعتراف بانفصالهم.
تريد موسكو أن تكون لها حرية مطلقة في التحرّك في فنائها الخارجي المباشر، على غرار ما فعلت أخيراً في أزمة كازاخستان، عندما تحرّكت عبر منظمة معاهدة الأمن الجماعي لوأد الاحتجاجات وتثبيت النظام أو في أي بلد تستدعي مصالحها ذلك، على غرار ما جرى في سورية.
تعي روسيا جيداً أن أوكرانيا، في لحظة الغزو، ستكون وحيدة، رغم كم التسليح الذي تتحصل عليه، فالولايات المتحدة كانت واضحة في إشارتها إلى أنها لن تتدخل عسكرياً وبشكل مباشر مهما حصل، وكذلك حلف شمال الأطلسي. وبالتالي، بإمكان موسكو الذهاب بعيداً في تصعيدها حتى شفير الهاوية، على أمل أن تخرج بأوراق رابحة من هذه المعركة، لأن العجز الغربي عن مساعدة كييف في لحظة التدخل العسكري لا يعني أنه يريد السماح بالوصول إلى هذه النقطة.
الجميع، بمن فيهم الولايات المتحدة وروسيا، يدركون أن تداعيات الغزو لن تتوقف فقط عند الردود الفورية، والتي ستتخذ طابعاً اقتصادياً عبر عقوبات قاسية على روسيا.
النقاشات الغربية تتركز اليوم حول كيف سيعيد الغزو، متى ما حصل، تشكيل قواعد النظام العالمي التي تم إرساؤها في فترة ما بعد الحرب الباردة، خصوصاً أن العقود الماضية شهدت ما يكفي من التحوّلات السياسية والعسكرية ومواقع النفوذ، بما يجعل من إدخال تغييراتٍ كهذه أمراً ممكناً راهناً.