هل يهدّد "شبح بيروت 1982" حماس في غزّة؟

18 يناير 2024
+ الخط -

"... والفلسطينيون كانوا أيضا من الخاسرين الرئيسيين في الحرب. رغم مقاومتهم، التي صمدت أكثر من توقّعات أي أحد، ضد الاعتداء الإسرائيلي، الحرب كان لها نتائج إيجابية قليلة لهم". .. ليس هذا المقطع عن حرب غزّة الجارية، لا بل اقتباس من كتاب رشيد الخالدي Under Siege (تحت الحصار) والذي يدرس "صنع القرار لدى منظمة التحرير الفلسطينية خلال حرب بيروت" والصادر عام 1985. يكمل الخالدي: "دُفعَت منظمة التحرير الفلسطينية للانسحاب من جنوب لبنان ثم أجبرت على مغادرة بيروت في أغسطس/ آب 1982، دون الحصول على ضماناتٍ للفلسطينيين المدنيين الذين تركنهم خلفها، ولا كسبت مقايضة سياسية سعت لها. النتيجة كانت مجزرة دموية في صبرا وشاتيلا، وتراجعا ملحوظا في حضور المنظمة وفاعليتها".

طرح السؤال في العنوان أعلاه في الأسابيع الأولى من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، ويبدو أن أوانه الآن، وليس آنذاك. أجل، لسنا في ثمانينيات القرن الماضي، وأجل إن "حماس" في وسط محيطها المحلي، لا كما كانت منظمة التحرير في بيروت، وبالتالي، قد لا تبدو المطالبة بإخراجها من غزّة واقعيةً، لكننا اليوم نسمع همسا عن مستقبل الحركة في غزّة إذا ما استمرّت العمليات العسكرية فيها، وطال أمد نقاش المراحل التي يجري الحديث عنها أميركيا وإسرائيليا يوميا، وطرحت فكرة إخراج بعض قياداتها، لا بل تطوّر الأمر حاليا إلى تقارير إعلامية عادت إلى تداول الأمر على شكل مبادرة جديدة، تقضي بموجبها إخراج قيادات "حماس"، في مقابل وقف اطلاق النار، أو التوصّل إلى هدنةٍ ما تُفضي إلى اطلاق سراح متبادل للأسرى والرهائن.

لا تبدو المطالبة بإخراج حماس من غزّة واقعيةً، لكننا اليوم نسمع همسا عن مستقبل الحركة في غزّة إذا ما استمرّت العمليات العسكرية فيها

تنفّذ كتائب عزّ الدين القسّام عمليات بتكتيكات عالية، وتكبّد الجنود الإسرائيليين خسائر يومية، لكن ثلاثة عوامل أساسية تُؤخذ بالاعتبار لفهم سياقات الطرح في عنوان المقال، أولها أن هناك اتفاقا شبه عام، وأحسبه مقبولاً بين أوساط الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، أن الوجود العسكري على الأرض يجعل من حرب المدن، ذات الكلفة العالية على الجيش الغازي، أمراَ حتمياً، وهذا ما يفسّر الخسائر المتزايدة بين أوساط جيش الاحتلال. ثاني العوامل، يبدو أن إسرائيل تعمد إلى تجاوز حاجز نفسي، ظلّ مهيمنا على نمط هجماتها الوحشية، وهو قبول الخسائر البشرية وتزايدها، كأمرٍ محتّمٍ في الحروب، شأن أي جيش آخر (وهذا بحد ذاته تحوّل كبير شأن فقدان الثقة لدى الإسرائيليين، خصوصا في غلاف غزّة، بأجهزتهم الأمنية والعسكرية بعد 7 أكتوبر. ولذا يكرّر الساسة الإسرائيليون أن الأولوية لعودتهم، لا عودة الفلسطينيين إلى منازلهم شمالي القطاع). وبالتالي، لم يعد مطروحاً صفقات تبادل للأسرى بأعداد كبيرة من الفلسطينيين، ولا حتى برفات مواطنيها وجنودها، وهو الأمر الذي يعطيها القدرة على الاستمرار في الحرب، وتخفيف الضغط السياسي عليها، ولو آنياً، فلهذه الحرب أثمانٌ على الحكومات الإسرائيلية اللاحقة دفعها مستقبلاً. وجديد هذه العوامل يرتبط بأن تأييد استمرار الحرب، غربيا، كان يُبرّر بإنهاء "حماس"، لإعطاء فرصة لحلّ الدولتين أو على الأقلّ بدء المفاوضات بشأنها، الأمر الذي أربكته الوقائع على الأرض، وبالتالي، تمضي إسرائيل في حملتها بكل وحشية.

ويضيف بعضهم الكلفة الاقتصادية، عاملا كابحا لإسرائيل، لكن أيضاً إذا ما قورنت بكلفة اجتياح بيروت 1982 التي قدّرت آنذاك بمليون دولار يومياً، وأثارت غضب الشارع الإسرائيلي، بالإضافة إلى عوامل أخرى، فإن كلفة حرب غزّة اليوم تقدّر ب 220 مليون دولار يوميا، وللقارئ الحكم، وأن يتذكّر أن الحراك في الشارع الإسرائيلي لا يتجاوز أهالي المحتجزين ومناصريهم.

لم يعد إنهاء "حماس"، بوصفها منظمة، يُطرح بقوة، كما في بدايات الحملة العسكرية، لكن إخراج قياداتها، أو بعض قياداتها، أو إبقاء بعض قياداتها في الخارج، بات أمراً يتم تداوله، في أوساط إقليمية، ودولية، وإن لم يكن علنا، ومع بعض التسريبات الصحافية غير المكتملة، مرّة يتم الحديث عن الجزائر، ومرّة عن السودان، ونسمع عن عدم طرح اسم إيران وجهة محتملة. ويشير مطّلعون إلى أن التحالفات الإقليمية، لبعض الوجهات المقترحة، أو غياب الغطاء الأمني في بعضها الآخر، غيّرت من قناعات بعض قيادات "حماس" في الداخل، فرفضوا الخروج ثمناً لاتفاقٍ ما.

التكتيكات المتفوّقة التي تتبعها كتائب عز الدين القسام، وفصائل المقاومة الأخرى، تزيد الضغط على إسرائيل

يستند كل ما سبق إلى تسريباتٍ، تتطابقُ أحيانا من عدة مصادر، لكنها تبقى في إطار غياب التأكيدات الرسمية من الأطراف المعنية، وهذا مردّه أن المباحثات للتوصل إلى هدن أو وقف إطلاق النار، باتت ملفّاً أمنياً إقليميا، وهو ما يبرّر انخراط رئيس "الموساد" فيها لا أجهزة الأمن الداخلية الإسرائيلية، التي طالما كانت تعتبر غزّة، من اختصاصاتها، وبالتالي، يصعُب الكشف عن تفاصيل ما يجري طرحه من الأطراف المعنية.

تستدعي الصورة المعقدة تلك نموذج بيروت، رغم، كما الإشارة أعلاه، أن الظرف والواقع الجغرافي يختلفان، لكن هذا لا ينفي أن الحديث عن إخراج بعض قيادات "حماس" بات واقعيا، كما أن التكتيكات المتفوّقة التي تتبعها كتائب القسام، وفصائل المقاومة الأخرى، تزيد الضغط على إسرائيل، لكن تأثيرها التعبوي يبدو أكبر من تأثيرها السياسي، ما يجعل الحديث عن ذلك السيناريو أو النموذج من القضايا العالقة في المباحثات الجارية لإنهاء الحرب، والقضايا العالقة لتحريك الأمور نحو تسوية أو تسويات سياسية ما.

رغم هذه الصورة القاتمة، للواقع، الا أن هذه التطورات جزءٌ من مراحل أولية، في قراءة تأثير 7 أكتوبر على واقع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتداعياته الإقليمية والدولية، حيث إن هذه الحرب الدموية في غزّة، وتداعياتها الآنية، هي البداية، في تحوّلاتٍ أكبر نشهدها في قادم الأيام.

مراد بطل الشيشاني
مراد بطل الشيشاني
كاتب وإعلامي أردني، مراسل متجول، ماجستير في العلوم الإنسانية.