هل يقلق بوريس جونسون؟
يواجه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، "فضيحة حفلات دوانينغ ستريت"، وهي مواجهة سيخوضها، على ما يبدو، على طريقته وبأسلوبه.
هو "بو جو". هذا لقبه وهذا نهجه. وبه سيحاول أن ينجو من التحقيق معه في ضلوعه، عن سابق إصرار وتصميم، في خرق إجراءات الحظر التي فُرضت على البريطانيين جرّاء جائحة كورونا.
يرفض الاستماع إلى دعوات زملائه "المحافظين"، أو خصومه من حزب العمال، أو حتى الزعيمة الإسكتلندية، نيكولا ستيرغن، له إلى الرحيل. والسؤال عن قدرته على تجاوز الحواجز التي سترفع في وجهه على مدى الأسابيع المقبلة، أو عن مدى إمكانه الاستفادة من اللعب بورقة "إنجاز تنفيذ بريكسيت"، سيكون، بالتأكيد، مطروحًا في الفترة المقبلة.
لن يوفر "بو جو"، المعروف بألعابه البهلوانية التي مكّنته من العوم فوق سطح كل هفواته السابقة، حيلة ليقطع الطريق على المناوئين أو المنفضّين عنه داخل حزبه. وربما يكون استعداده للتجاوب مع تحقيق الشرطة مناورة تسمح له بالاستمرار من دون الخوض في انتخاباتٍ مبكرّة. لكنها، في كل الأحوال، مناورة محرجة له ولحزب المحافظين الذي يفخر ويتغنّى بأنه الضامن للنظام والقانون. ولكن حقيقة، ليس هذا ما يشغل البال، وإنما أنه، في مساءلته عن هذه "الفضيحة" التي دافع عن نفسه بشأنها، قال إنه "لم يكن يعلم". كان مرتاحًا ومطمئنا بما تتيح له رغبته العارمة باستعادة منطق "مناعة القطيع"، لإعلان أنه اعتبارًا من مارس/ آذار المقبل سترفع إجراءات العزل تمامًا، وذلك في وقت أصبح نحو 64,3% من البريطانيين محصّنين بالجرعة الثالثة (المعزّزة) من الللقاحات ضد كورونا. قد يقول قائل إن هذا الإعلان يمثل واحدة من أوراق اللعب التي رماها جونسون في وجه المنافسين على الطاولة، أو إن النسبة المحصّنة كافية للتخفيف من أثر كل العوامل التي تعرقل عجلة الاقتصاد، تحديدًا في صفوف أصحاب الأعمال الحرّة أو المياومين البسطاء. سواء أكان هذا أم ذاك، إنه يقول: حان وقت التعافي. ولكن تبدو هذه الخطوة، من متابعة تحذيرات منظمة الصحة العالمية، والتي لم تقل بعد إن علينا أن نتخفف من حذرنا بينما نبحر في عام 2022، أكثر من التفكير بالتمنّي، بل هي فعليًا عملٌ به.
راية التعافي السريع التي يرفعها "بو جو" لن تبدّد طبقات التروما الواطئة على صدور كثيرين ممن أصبحوا أكثر عرضةً لاختبار نوباتٍ من القلق الشديد
ما يعنيني ويقلقني التفكير بأن كل جهد بذل في العامين الماضيين سيذهب سُدى. وكأننا أمضينا كل هذا الوقت نملأ دلو الماء قطرة تلو قطرة، وأتى طفلٌ لاهٍ ركلَ الدلو وارتمى ضاحكًا. وكأنه يمنح مناهضي اللقاح فوزًا سهلًا. كيف يمكن أن تتواصل حملة التلقيح بالزخم المطلوب، إذا كان المتردّدون سيسمعون اعتبارًا من الربيع المقبل أن الحفلة قائمة، وليس عليهم سوى ارتداء بهجة العودة إلى "الحياة الطبيعية". وماذا عن ارتداء الكمّامة التي لن تسقط عن حدود الأنف فقط، بل ستدوسها أقدام كل الموظفين العائدين إلى شركاتهم ومهامهم. الكمّامة التي نالت مجدَها عن جدارة في حمايتنا. كثيرون لم يتخلوا عنها في أوقات سابقة خففت خلالها السلطات من إجراءات فرض الالتزام بها. وربما هم سيظلون متمسّكين بها. ليس لأنهم أكثر حرصًا من "بو جو"، أو لأن همَّ إيصال اللقاح إلى كل الشعوب بلا تمييز أو إجحاف يأكلهم من الداخل ليلًا، ويرون أن مساهمتهم بارتداء الكمّامة سيكون لها فضل بسيط في تأخير انتشار متحوّر جديد بينها، ولا حتى لأنهم أقل أنانية أو إيثارًا لذواتهم التوّاقة لاستعادة مساحات التألق الماضية الممزوجة بالحنين والتلهف إلى "الحياة ما قبل الوباء". بل لأنهم ما عادوا يعرفون غيرها، والتخلّي عنها يعني لهم عريًا كاملًا أمام تسونامي من اضطراب القلق.
حمل الوباء إلى معظمنا حول العالم التروما. وراية التعافي السريع التي يرفعها "بو جو" لن تبدّد طبقات هذه التروما الواطئة على صدور كثيرين ممن أصبحوا أكثر عرضةً لاختبار نوباتٍ من القلق الشديد في كل مرّة يضطرون للخروج من المنازل أو عند تنبههم إلى ازدياد عدد المحيطين بهم. وهذه ليست سوى عوارض قليلة أو أبسط من عوارض أخرى إضافية تندرج تحت خانة عوارض اضطراب ما بعد الصدمة. خدمة الصحة الوطنية أكثر تنبهًا، على ما يبدو، من رئيس الوزراء البريطاني إلى ذلك، إذ تكثف من رسائلها ونصائحها للمواطنين لتأمين عودة آمنة، متدرّجة، متصالحة مع الانطوائية الحديثة التي تشكلت، أو تطورت، لدى كثيرين في العامين الماضين، وتدعوهم إلى الاستفادة من خدمة الاستشارة والمساعدة على تخطّي هذه العوائق النفسية والذهنية.
في بداية الوباء، لم يتوان "بو جو" عن المصافحات، جاهر بها فيما كان المستشار العلمي في داونينغ ستريت ينصح بالامتناع عنها
خدمة الصحة الوطنية نفسها قد تكون عند منعطف جديد يودي بجودة خدماتها أو انهيارها. ثمانون ألف موظف في خدمة الصحة الوطنية ليسوا ملقحين حتى الآن، أي نحو 10% من الطاقم الصحي العامل في عدد من المستشفيات وعيادات الطبابة العامة. وهؤلاء اليوم أمام مصير إما اللقاح أو عواقب أقلها توقيفهم عن العمل ولو مؤقتًا. وقد استبق بعضهم نهاية المهلة في الثالث من فبراير/ شباط وقدّم استقالته. أراد هؤلاء الإمساك بزمام الأمور وإبقاء السيادة على أجسادهم، كما يقولون. سؤال احتمالات اجتياح سيادة أجساد الآخرين بفيروس، هم ناقلون له عن غير قصد، إنما بوعي فردي منفصل تمامًا عن ال "إيكو سيستم"، لا يجد مكانًا في الحيثية الأخلاقية التي يتفاعلون فيها ومعها. لكن ماذا لو بالفعل بقي 10% من الطاقم الصحي خارج الخدمة، ألا يتحقق انهيارها؟ وهذا ما كان من أبرز عناوين خشية العام الأول قبل اللقاح، وهو أن تسقط الخدمة الصحية أمام تسونامي المرضى الذين يحتاجون إلى الاستشفاء في المراكز الصحية.
هل توضع خشية الانهيار أو تحققه في كفّة توازي كفة بريكسيت؟ مَن يزِنُ ماذا؟ بوريس جونسون الذي شاهدناه يُنقل إلى المستشفى طلبًا لمتابعة طبية جراء إصابته بالفيروس، وهو الذي، في بداية الوباء، لم يتوان عن المصافحات، بل جاهر بها في وقت كان المستشار العلمي في "داونينغ ستريت" ينصح بالامتناع عنها، لن يحيد عن المشهد لا في داخل حزبه ولا عن رئاسة الوزراء بسهولة إلا إذا ثبت أنه كذب. ومع ذلك، قد ينجو تمامًا، كما تمكّن من محو هفوات وزلات لسان ومواقف سابقة توردها مجدّدًا الصحافة البريطانية، يوم كذب بشأنها "بو جو"، وأكمل طريقه نحو قيادة الحزب ورئاسة الحكومة.