هل يعود جنوب السودان؟
انفصل جنوب السودان في عام 2011، بعدما صوّت الجنوبيون، بأغلبية ساحقة تقارب الإجماع، لخيار الانفصال. لم يكن اختيارهم هذا مفاجئاً، فقد حملوا السلاح في مواجهة حكومة الخرطوم في أقوى تعبير عن رفضهم التبعية للسودان. وعلى الرغم من محاولات لإيجاد صيغة توافقية تحفظ للجنوب خصوصيته في إطار سودان موحد، فإنّ صوت الانفصال بقي عالياً تقويه اختلافات ثقافية وإثنية، جعلت للجنوب تميزه الواضح عن الشمال، كما أنّ مظالم اجتماعية وسياسية أذكت روح التمرّد بين الجنوبيين، ورجّحت خيار الانفصال... اتحد الجنوبيون حول خيار الانفصال، وأجّلوا كلّ خلافاتهم إلى حين تحقيق حلم الدولة المستقلة. ولما لاحت فرصة تحقيق الحلم توجه الجنوبيون نحو مراكز الاستفتاء في أجواء مشبوبة بالعاطفة، ينتظرون بشوق ميلاد وليدهم الأسطوري، ويفرغون في صندوق الاقتراع شحنة الغضب من الشمال، ويعتبرون قرار الانفصال الوشيك انتقاماً من الشمال الظالم، بأن يذيقوه ألم فصل جزء عزيز من جسده، ويغسلوا عن نفوسهم بالانفصال مراراتٍ ترسّبت زماناً طويلاً .. تلك أجواء استحال معها أي حديثٍ بارد يدعو إلى التريث أو إلى خيار وسط بين الانفصال التام والتبعية لشمال السودان.
وجد الجنوبيون أنفسهم بلا رصيد يذكر من خطط البناء وأدواته، إلى جانب شروخ قبلية ظلت مكبوتة أو مؤجّلة
تحقق حلم الدولة المستقلة، ليواجه الجنوبيون مرحلة بناء الدولة التي لا يناسبها الهتاف والأناشيد واستعادة أمجاد الأسلاف، ولا ينجزها الثأر من الشمال. وجد الجنوبيون أنفسهم بلا رصيد يذكر من خطط البناء وأدواته، إلى جانب شروخ قبلية ظلت مكبوتة أو مؤجّلة، عندما كان الجميع في مواجهة الشمال، فلما زال العدو المشترك، انفجرت الحرب القبلية لتشهد دولة جنوب السودان الجديدة حرباً أهلية، انحدرت بالدولة الوليدة إلى درك الدولة الفاشلة. كان طبيعياً أن يسارع العقلاء من الجنوبيين إلى تدارك الموقف، بعد أن أيقنوا أن مرحلة الحلم قد ولت، وأن مشاعر الانتقام من الشمال لم يعد لها ما يبرّرها، بعدما زال الشمال تماماً من المشهد الجنوبي. وأدرك الجنوبيون الكبار، بعد تفريغ شحنات العواطف والعودة إلى قواعد التفكير العقلاني، أنّ العلاقة الطويلة مع الشمال قد أورثت طرفي العلاقة روابط قوية، مثل الرابطة الثقافية المتمثلة في "عربي جوبا" وهي لغة عربية دارجة، تتخاطب بها القبائل الجنوبية، بمختلف لهجاتها المحلية، كما أنتج طول العلاقة بين الشمال والجنوب مصالح اقتصادية، مثل تجارة الحدود وسوق العمل الذي اتّسع للجنوبيين حتى بعد الانفصال، وهو ما لم يجدوه في دولتهم، بل وجد الجنوبيون الفارّون من الحرب ملجأهم في الشمال، مفضلين إياه على دول الجوار الأفريقي التي تشبه الجنوبيين من ناحية إثنية، لكنّها لا تشبع فيهم أبعاداً وجدانية. وفي قرار رياضي ذي دلالة، اختار اتحاد كرة القدم في دولة جنوب السودان استاد الخرطوم ليستضيف مباريات الفرق الجنوبية في المنافسات الأفريقية، بعدما رفض الاتحاد الأفريقي اعتماد استاد جوبا. وفي أول مباراة لفريق جنوبي بعد الانفصال، كان مشهداً مؤثراً حين وجد الفريق تشجيعاً داوياً من الجماهير السودانية في استاد الخرطوم. وظهرت للعلاقة بين البلدين مفارقات، مثل استضافة الخرطوم محادثات السلام بين الطرفين المتحاربين في الجنوب، حتى تحققت المصالحة بين رئيس جنوب السودان سلفا كير وخصمه رياك مشار. ثم استضافت جوبا محادثات السلام بين الحكومة السودانية الانتقالية والحركات المسلحة، ليتحقق السلام في السودان برعاية جنوبية.
تؤكد هذه الحقائق وجود خصوصية في العلاقة لا تنفيها جراحات الماضي، وهي علاقة خاصّة يمكن أن تؤسس لتعاون بين البلدين لتحقيق مصالحهما. قد لا يكون في الوسع استعادة الوحدة، لكنّ الشواهد تؤكد إمكانية بل ضرورة التعاون لتحقيق مصالح اقتصادية وتبادل منافع كثيرة، في اتحاد كونفيدرالي يحقق للبلدين فرص التعاون بإزالة حواجز الحدود السياسية وعقبات التبادل التجاري. وقد يؤسّس الاتحاد الثنائي المقترح لاتحاد أكبر بانضمام مصر لتشكل الدول الثلاث اتحاداً كونفيدرالياً ثلاثياً يكتسب أهمية إضافية معتبرة، بانضمام مصر ذات الثقل الإقليمي والإمكانات المادية والفنية في مجالات مختلفة، تعين دول الاتحاد المقترح على تحقيق طفرات عديدة. ولا يخفى ما في الاتحاد من فوائد لمصر التي ستجد في الدولتين إمكانات لتحقيق الأمنين الغذائي والمائي، وذلك عبر مشروعات زراعية مشتركة واتفاقات تحافظ على حقوق الدول في المياه. وتعتبر فكرة الاتحاد الكونفيدرالي الثلاثي متماشية مع الاتجاه العام نحو التكتل الإقليمي.
قد لا يكون في الوسع استعادة الوحدة، لكن الشواهد تؤكد ضرورة التعاون لتحقيق مصالح اقتصادية وتبادل منافع كثيرة
ولا بد من الاستفادة من دروس الماضي، حتى يكون الاتحاد المقترح منزلةً وسطى بين خيارين متطرّفين، لم يحققا النجاح في المرّات السابقة، حين اعتمدت الدول المعنية خيار الانفصال التام أو الوحدة الاندماجية الكاملة. وفي ما يخصّ علاقة السودان بجنوب السودان، تعرّضت هذه العلاقة لهزّتين خطيرتين، يجب الاعتبار بآثارهما عند تأسيس العلاقة الكونفيدرالية الجديدة. تعرضت العلاقة للهزّة الأولى، عندما نكصت الحكومات الوطنية الأولى عن تعهدها بمنح الجنوب حكماً ذاتياً فور تحقيق السودان استقلاله؛ فقد صوّت النواب الجنوبيون في البرلمان الأول لمقترح نيل الاستقلال في مقابل أن ينال الإقليم الجنوبي حكما فيدرالياً في إطار دولة السودان المستقل، إلّا أنّ الحكومة الوطنية لم تفِ بالوعد، فاهتزّت ثقة الجنوبيين في الشمال، وكان ذلك أهم أسباب تمرّد الجنوبيين على الحكومة المركزية. وفي الهزة الثانية، صعّد الجنوبيون ردّ فعلهم المتطرّف، وأعلوا سقف مطالبهم إلى مستوى الانفصال، وتحقق لهم ما أرادوا، إلّا أنهم أنشأوا دولةً لا تملك مقوّمات النجاح. وباستعراض هذه الحالة، نجد أنّ الكونفيدرالية تعالج آثار أخطاء الطرفين، باعتماد هذا الخيار الأوسط.
وفي ما يخصّ مصر، نشأ في السودان تيار اتحادي قوي، لكنّ فكرة الاتحاد مع مصر ووجهت بعقبتين، إذ لم تجد إجماعاً سودانيا، ولم ينظر إليها الساسة المصريون غير دعوةٍ سودانيةٍ تؤكّد المؤكّد بـ "تبعية" السودان لمصر. لذلك اضطر الاتحاديون للنزول عند خيار الاستقلال الذي لا يختلف عليه أحد. ومع مرور عقود على الاستقلال، استجدّت مستجدّات مهمة، جعلت في الإمكان الدعوة إلى علاقة خاصة مع مصر بفهم جديد. أهم المستجدّات أنّ التيار الاستقلالي لم يعد رافضاً التقارب مع مصر. وقد لعب الزعيم الاستقلالي الراحل، الصادق المهدي، دوراً كبيراً في إزالة الحساسيات بين التيار الاستقلالي والجارة الشمالية المهمة، كما تجاوز الساسة المصريون اللاحقون فكرة "إلحاق" السودان بمصر التي كان يتبنّاها ساسة تقليديون في مصر، فأصبح ممكناً التقاء البلدين في منطقةٍ وسطى بين المنزلتين.
في هذا المقترح الداعي إلى كونفيدرالية ثلاثية، تبدو عودة الجنوب إلى السودان هي الأقرب، على أن تعمل مصر بوصفها الشقيقة الكبرى على توسيع إطار الاتحاد المقترح.