هل يتوقف المصريون عن أكل اللحوم؟
تستهلك مصر ما يزيد عن 1.2 مليون طن من اللحوم الحمراء سنويا، تنتح منها نحو 40%، وباقي الفجوة الاستهلاكية يتم استيرادها من خارج البلاد. ووفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تراجع نصيب المواطن المصري من اللحوم الحمراء من 10.7 كيلوغرامات في عام 2017 إلى 7.8 كيلوغرامات في عام 2020، بينما ارتفع نصيب الفرد من اللحوم البيضاء والدواجن من 10 كيلوغرامات في عام 2017 إلى نحو 15.2 كيلوغراما في عام 2020. لكن الأزمة الاقتصادية الحالية وضعف تدفقات النقد الأجنبي ساهما في عدم القدرة على استيراد اللحوم وسد الفجوة الاستهلاكية التي تقدّر بنحو 60%، وأدّى هذا إلى أن يواجه المواطنون في مصر موجة تضخّم وغلاء غير مسبوقة، ليس فقط في أسعار اللحوم، وإنما أيضا في السلع بصورة عامة مع اختفاء بعضها من الأسواق، حيث ارتفعت أسعار اللحوم الحمراء بنسبة بين 30% إلى 50%، وارتفعت أسعار الدواجن والأسماك والخبز والزيوت والسكر بين 50% و70%، وهناك توقعات بوصول مستوى التضخم وارتفاع الأسعار إلى درجات غير مسبوقة في الأسابيع المقبلة، خصوصا في شهر رمضان. وتأتي موجة الغلاء هذه أيضا كإحدى النتائج المباشرة لشحّ الدولار في الأسواق، ما نتج عنه تكدّس الأعلاف الزراعية في الموانئ المختلفة، ما أثر بصورة مباشرة على سعر الأعلاف الحيوانية وارتفاع ثمن الطن إلى أرقم قياسية، ما تسبب في أن يوقف عديدون من أصحاب المزارع نشاطهم مؤقتا إلى حين حل الأزمة، وقد خرجوا من السوق، لعدم قدرتهم على تحمّل التكاليف والأعباء بعد ارتفاع أسعار الأعلاف، وهم يمثلون نحو 70% من إجمالي الثروة الحيوانية في مصر، إذ يمتلكون مليوني رأس ماشية، على الرغم من أن الدولة دشّنت مركز تجميع الألبان في مدينة السادات بمحافظة المنوفية لحماية صغار المربّين، إلا أن هذا الأمر لم يحدث.
وجود اللحم على موائد المصريين أصبح نوعا من الترفه والثراء
وعلى الرغم من الإفراج عن مزيد من مستلزمات أعلاف الدواجن المكدّسة في الموانئ بقيمة 135 مليون دولار في الشهر الماضي (يناير/كانون الثاني)، إلى جانب الإفراج عن 143 ألف طن من الذرة الصفراء، والتي يصل إجمالي المحتجز منها في الموانئ إلى مليوني طن، إلا أن الأسعار في ازدياد رهيب، فقد وصل سعر الكتكوت إلى 32 جنيها، أي أعلى من سعر الدولار في البنك والذي يعادل الثلاثين جنيها، كما أن كيلو اللحمة وصل، في بعض المناطق، إلى 300 جنيه. في الوقت نفسه، لتلك الأزمة صلة مباشرة بالاقتراض من صندوق النقد الدولي، الذي التزمت الحكومة بشروطه، حيث وجّهت تعليمات للبنك المركزي بوقف تمويل مشاريع الإنتاجين، الزراعي والصناعي، من خلال قروض ميسرة منخفضة الفائدة، وقامت بتسهيلات جديدة لقطاع الصناعة عبر تمويل من الخزانة العامة للبنوك بقيمة 150 مليار جنيه، وتجاهلت مبادرات إنقاذ الثروة الحيوانية واستصلاح الأراضي.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن قطاع اللحوم والدواجن في مصر من القطاعات الجاذبة للاستثمار، حيث يصل حجم الاستثمارات في صناعة الدواجن بمصر إلى 100 مليار جنيه (3.13 مليارات دولار)، ويعمل بها نحو ثلاثة ملايين عامل، وإجمالي عدد المنشآت الداجنة في مصر نحو 38 ألف منشأة، وتنتج مصر نحو 1.4 مليار طائر، وينتج القطاع الريفي نحو 320 مليون دجاجة، وتنتج مصر أيضًا نحو 14 مليار بيضة مائدة. هذا القطاع الجاذب للاستثمار جعل شبكة جماعات المصالح، خصوصا العسكرية منها، تزحف للاستثمار فيه، والهيمنة عليه. وهذا يجعلنا نقول إن الأزمة ليست اقتصادية فقط، بل وجود الفساد وتغلغل شبكات المصالح في قطاعات عديدة مختلفة وهيمنة النخبة العسكرية على هذه القطاعات واحتكار الاستثمار فيها، خصوصا قطاعي الثروة الحيوانية والدواجن أدى إلى نوع من المنافسة والمضاربة بين التجار وبين شبكات الفساد هذه، فالتجار يمثلون جزءا من شبكة المصالح تلك، كما أن عديدين منهم يعمل لصالحه. وبالتالي، تحدُث تلك الفوضى في الأسواق وعدم القدرة على ضبط الأسعار، والمواطن متروكٌ بمفرده لمواجهة هذه الفوضى المرعبة في الأسواق. غياب الدولة وعدم قدرتها على ضبط الأسواق أو فرض سعر موحّد نتيجة ضعف الأجهزة الرقابية، أو عدم تفعيلها منذ سنوات، أدّى إلى أن يكون المواطن هو الفريسة التي تتكالب عليها شبكات المصالح والتجار، ومع ضعف قدرته الشرائية نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية أصبح أكل اللحوم نوعا من الرفاهية، بل يمكن القول إن وجود اللحم على موائد المصريين أصبح نوعا من الترفه والثراء.
أزمة زيادة أسعار اللحوم والدواجن قد يقف خلفها عسكريون يريدون إحكام سيطرتهم على هذا القطاع لاحتكاره والتمدّد فيه
ومع اقتراب شهر رمضان، تسعي الحكومة إلى توفير البدائل من خلال تدبير اللحوم من السودان، وقد أدى تزايد أسعار اللحوم المجمّدة المستوردة إلى زيادة إقبال المصريين على اللحوم السودانية التي تمنع وزارة الزراعة دخولها حيّة إلى البلاد، وتتولّى الإشراف على ذبحها في موانئ السويس (شرق)، خوفاً من حملها أمراضا تنقلها بين القطعان المصرية، بينما تسمح بدخول فوري للعجول القادمة من إسبانيا وفرنسا وأوكرانيا لتُذبح في مجازر المحافظات، إلا أن هذا البديل الذي تسعى الحكومة إلى توفيره، إلى جانب بدائل أخرى، مثل اللحوم البرازيلية وغيرها، قد لا يؤدّي إلى حل المشكلة وانخفاض الأسعار، حيث هناك فساد مستشر في الهيئات الرقابية المختلفة، فهناك تلاعب يحدُث بصورة متتالية في الأختام. حيث يحصل المستورد على ختم المحلي نفسه، وبالتالي، لا يعرف الفارق بين اللحم المستورد واللحم المحلي، ما يسمح ببيعه بسعر المستورد.
من يعرف الطريقة التي يُدار بها الاقتصاد المصري وتوغل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد واحتكار القطاعات المختلفة، إلى جانب معرفة كيفية صناعة الأزمات لإزاحة المنافسين للجيش، يستطيع أن يتوقّع أن الأزمة الحالية المتعلقة بزيادة أسعار اللحوم والدواجن قد يقف خلفها عسكريون يريدون إحكام سيطرتهم على هذا القطاع من أجل احتكاره والتمدّد فيه. على أن هذا التمدّد للمؤسسة العسكرية مخالف للاتفاق الذي جرى إبرامه مع صندوق النقد الدولي، ويقضي بتقليص دور الجيش في الاقتصاد، ومزيد من الشفافية والرقابة، وهو الشيء الذي لن يتحقّق في ظل استمرار هيمنة المؤسّسة العسكرية على السلطة والاقتصاد في آن واحد، وهو ما لا يبشّر بأي انفراجة قريبة أو تخفيف لمعاناة المصريين الذين أصبح أكثر من نصفهم تحت خط الفقر.