هل هو تموضع جديد للأسد؟
يبدو أن رأس النظام السوري يحاول إخراج نفسه من "محور الممانعة" وعلاقة التبعية مع إيران، ليتموضع تموضعاً جديداً في "محور الاعتدال العربي". تدفعه إلى ذلك ضغوطٌ روسية وعربية في سياق تصعيد بين "محور الممانعة" وإسرائيل. وبهذا التموضع، يهدف بشّار الأسد إلى إرجاء استهدافه إسرائيلياً كما حذّره فلاديمير بوتين، وإلى انتظار فرصة إعادة بناء نظامه السياسي المنهار بشروط جديدة، فهل ينجح؟... قد لا يستطيع الأسد الخروج تماماً من تموضعه القديم، كما لا يستطيع التزام تموضعه الجديد تماماً. ولكن هذا لا يمنع من المحافظة على رأسه وإتاحة إمكانية لإعادة بنائه نظامه.
هناك كثير ممّا يشير إلى أخذ الأسد مسافةً من "محور الممانعة" و"وحدة الساحات"، منها التراجع عن تهريب المخدّرات والسلاح إلى الأردن بقصد زعزعة استقراره، بوصفه مطلباً أردنياً وسعودياً وإماراتياً. أيضاً، الصمت عن الاعتداءات الإسرائيلية على سورية وعدم إمكانية الإسناد في حربي غزّة ولبنان، مع أن الدور السوري اقتصر على تمرير الدعم اللوجستي الإيراني، الذي تطارده إسرائيل بغارات جوية في أماكن عدّة في سورية. ويمكن إضافة غياب البديل الذي يمكن أن يعقد اتفاقيةً مع إسرائيل (وفق شروطها). وربّما باتت إيران نفسها لا تعوّل على سورية.
كما هي كثيرة المؤشّرات إلى تموضعه الجديد في "محور الاعتدال"، التي صارت أشدّ وضوحاً منذ قمّة المنامة في مايو/ أيار 2024، ومنها فتح معبر أبو الزندين، وإعادة افتتاح السفارة السعودية في دمشق، ووعود بإعادة إعمار جزئية. ويضاف إليها الكلام على الاستجابة الإنسانية والتعافي المُبكِّر من المبعوث الأممي، غير بيدرسون، ورفض الرئيس الأميركي، بايدن، توقيع قانون مناهضة التطبيع مع الأسد، ومن ثمّ تعديله بما يفرّغه من معناه في 29 يوليو/ تمّوز 2024. الشيء الذي فتح الباب أمام قيادة إيطالية لسبع دول أوروبية لإعادة العلاقات الأوروبية السورية.
قد لا ترى إيران في سورية حليفاً أو وكيلاً للتنسيق معه لخوض معركتها مع إسرائيل، فتسعى إلى الخروج هي ومليشياتها من سورية
وعلى الرغم من أن المشهد معقّد ومتداخل في المنطقة، لكن يمكن الاستناد إلى نقطتَين لتحليله. الأولى، ازدياد حاجة إسرائيل إلى الولايات المتحدة. وهذا يجعل الإدارة الأميركية (الحالية، والجديدة بقيادة ترونالد ترامب) متحكّمةً في الحرب التي تتزامن معها بوادر خروج الأسد من تموضعه القديم، وانفراط "وحدة الساحات". وفي الوقت نفسه تبدّت حاجة إسرائيل الملحّة إلى الدعم العسكري والمالي والسياسي من الولايات المتحدة، التي تدفع ثمن ما يزيد على 25% (بحسب صحيفة الغارديان) من حرب إسرائيل. ويحدث ذلك كلّه في الوقت الذي تدمّر فيه إسرائيل غزّة فعلياً، وتجعل الضفة الغربية ضحيةً، وتشرع في اجتثاث حزب الله من جذوره، وتتهدّد إيران والحشد الشعبي (الشيعي) في العراق، والحوثيين في اليمن، وتضرب الوجود الإيراني في سورية، بما يشمل مطارَي حلب ودمشق.
مع هذا كلّه، نجد البيت الأبيض يؤجلّ وقف الحرب، ويحمي نتنياهو من العدالة الدولية، وربّما يستغلّ حاجة إسرائيل خير استغلال لتمرير استراتيجيته غير المعلنة لهزيمة "محور الممانعة"، ورأسه الإيراني تباعاً. الشيء الذي يتيح لأميركا التخفّي بستار حرب إسرائيل الهمجية، وكأنها غير ذي صلة بها، بغية النأي عن أوزارها وتكلفتها السياسية والإنسانية أمام العرب والمسلمين والمجتمع الدولي، بما فيه المجتمع الأميركي ذاته.
النقطة الثانية أن التفاوض السياسي يستند إلى موازين القوى. وبما أن هناك خللاً كبيراً في موازين القوى بين إسرائيل وأميركا وحلفائهما من جهة، وبين إيران، التي تقود "محور الممانعة"، وحلفائها بما فيهم الصين وروسيا، من جهة ثانية، فإن التفاوض غير وارد في هذه المرحلة، سواء مع إيران على مشروعها النووي واستمرار وجود وكلائها في المنطقة، أو مع الفلسطينيين على حلّ الدولتين، أو مع لبنان على قرار مجلس الأمن 1701، أو مع سورية لوقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة ضدّ الوجود الإيراني فيها. فكيف للأسد أو لـ"حماس" وحزب الله وإيران أن يعقدوا صفقةً رابحةً معاً، على الرغم من أنهم لم يحاربوا معاً؟... الأرجح أنه ليست هناك أيّ صفقة لصالح هذه الأطراف بما فيها إيران، وذلك لأن المهزوم في الميدان لا يفاوض المنتصر، وإنْ فاوضه لا يحصّل شيئاً يذكر من ناحية، ولأن الأيديولوجيا لا تقاوم التكنولوجيا المشبعة بالذكاء الاصطناعي من ناحية أخرى.
ومن هنا، استخدمت الاستراتيجية الأميركية الجيش الإسرائيلي لتوجيه ضربة إلى إيران، ولا سيّما بعد إطلاق الصواريخ الباليستية على إسرائيل، وبعد محاولة اغتيال رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، بواسطة "وكلاء إيران"، كما قال نتنياهو نفسه، وتبنّي حزب الله للعملية (كما أعلن مسؤول العلاقات الإعلامية في الحزب محمّد عفيف)، ولكنها لم تطاول المشروع النووي ولا النفط أو الطاقة، كما طلب بايدن من نتنياهو، بل طاولت بعض مواقع الصواريخ الباليستية ومصانعها ومنصّات إطلاقها. الشيء الذي قد يهدّد بانفجار الوضع الداخلي الإيراني، ومشكلة التوريث التي يزمع خامنئي تمريرها. وتبدو الولايات المتحدة ضعيفةً لا تستطيع فرض وقف الحرب، ولكن هذا الضعف قد يكون غطاءً لاستراتيجية هجومية لتقوية إسرائيل وإضعاف إيران أكثر فأكثر. أمّا ما يخص رأس السلطة في سورية فتميل التحليلات المستندة إلى الوقائع إلى استثنائه، وربّما تحضيره ليعقد اتفاقية إسرائيلية محصّلةً للسياق الحالي وتموضعه من جديد.
يقول محللون إن إدارة بايدن تتخبّط، وليس لديها خطّة كبرى أو خطّةً لليوم التالي لوقف الحرب، فهي تفتقر إلى الإرادة، أو إلى الوسائل لتأديب الإسرائيليين أو توجيههم أو ضبطهم. ونتيجة ذلك، تركّز بشكل أساس في تجنّب حرب إقليمية موسّعة. ولكن ماذا لو كان هذا التفسير سطحياً؟ وماذا لو كان ذلك يقلّل من شأن مقاصد واشنطن؟ ماذا لو رأت الشخصيات الرئيسية في الإدارة الجديدة أن هذه لحظة تاريخية وفرصة لإعادة تشكيل توازن القوى العالمية والشرق أوسطية؟ فوفق تحليلات التخبّط الأميركي، يُنظر إلى الولايات المتحدة عموماً أنها تمارس ردات الأفعال المحابية لإسرائيل ضدّ إيران ووكلائها، غير أنه يمكن النظر إليها أفعالاً استباقية أيضاً، كما عودتنا واشنطن منذ أحداث 11 سبتمبر (2001). ولكن، يبدو أن التركيز ليس في العملية بحد ذاتها، بل في نتائجها، وما تفتحه من فرص لها في المنطقة. ولهذا، يبدو أن هناك تفسيراً مختلفاً واحتمالياً.
ومن جانب آخر، نجد إدارة بايدن حاسمةً وغير متخبّطة، وربّما عدوانية عندما يتعلّق الأمر بأمن إسرائيل (وهو الحال مع ترامب). وقد أبقت إيران محاصرةً في وقت تعمل إسرائيل فيه على محو شبكة النفوذ الإيرانية، وتقضي على رؤية إيران للمنطقة. وتستخدم الولايات المتحدة الاعتداءات على إسرائيل لتضعها موضع الدفاع عن النفس لصالحها. وفي مرحلةٍ ما، قد يقرّر البيت الأبيض أن وقف إطلاق النار ضروري فيتوقف. إذاً، ما يحدث هنا أكثر من مُجرَّد تخبّط أميركي.
التطبيع مع الأسد رهن باستجابته لسياسة الدول الراعية له، وبالتزام السلام مع إسرائيل، والحلّ السياسي بموجب القرار 2254
ولهذا، وضع هجوم حركة حماس ومناوشات حزب الله خلال العام الماضي مثل هذه الاستراتيجية اليوم، فبمُجرَّد أن شنّت "حماس" هجومها في 7 أكتوبر (2023)، وأصبحت إسرائيل في حاجة ملحّة إلى أميركا، أعطت واشنطن الضوء الأخضر لإنهاء "حماس" وأوقفت وحدة الساحات وإمكانية اتساع الحرب لتصبح حرباً إقليمية، ولكنها ناوشت قليلاً مع أنصار إيران في اليمن والعراق وسورية. بينما ركّزت إسرائيل في "حماس"، وناوشت مع حزب الله. ولكن، مع محاولات القضاء على حزب الله وتراجع إيران إلى خطاب السلام والأخوة مع الولايات المتحدة وزيادة استفزازها في الوقت نفسه، يبدو أن اللحظة مناسبة للذهاب بعيداً بواسطة إسرائيلية ورعاية دولية وقيادة أميركية جديدة.
وفي هذا السياق يطرح السؤال: هل تنجح محاولات الأسد في تموضعه الجديد؟ ربّما ينجح في استثنائه من الاستهداف شخصياً بتغيير تموضعه. ولكن النجاح في إعادة بناء نظامه المنهار يحتاج إلى حسم الحرب الروسية الأوكرانية، لأن روسيا داعمة له، وإلى خروج إيران المتوقّع من سورية. وهو متوقّع لأن الوجود الإيراني في سورية بات مكلفاً وقد لا تتحمّله إيران، خصوصاً بعد الضربات الكثيرة التي تعرّضت لها في سورية، وفي ظلّ استهداف إسرائيل لإيران نفسها نجد أنه من الممكن ألّا ترى إيران في سورية حليفاً أو وكيلاً يمكن التنسيق معه لخوض معركتها مع إسرائيل. ولذلك، تسعى إلى الخروج هي ومليشياتها من سورية. أما بخصوص الاستمرار في التطبيع مع الأسد فهو رهن باستجابته لسياسة الدول الراعية له، وبالالتزام باستحقاقين: الالتزام بالسلام مع إسرائيل. والالتزام بالحلّ السياسي استناداً إلى قرار مجلس الأمن 2254.