هل نجح التوازن التركي في العام الأول للحرب الأوكرانية؟
أحدثت الحرب الروسية على أوكرانيا قبل عام استقطاباً عالمياً واسعاً، وأعادت إحياء حقبة الحرب الباردة بين روسيا والغرب. كانت هذه الحرب تحدّياً على وجه الخصوص للدول الأكثر تأثّراً بها، بحكم الموقع الجغرافي والمصالح المتداخلة بين موسكو والغرب. تركيا من هذه الدول، وقدّمت نموذجاً دولياً استثنائياً في إدارة موقفها من الحرب، يرتكز بشكل أساسي على نهج التوازن. في وقتٍ عارضت فيه أنقرة صراحة الحرب، وواصلت تعميق شراكتها العسكرية مع كييف، وتزويدها بطائرات مسيّرة مسلحة، وأغلقت مضائق البحر الأسود أمام حركة السفن الحربية الروسية بموجب معاهدة مونترو، فإنها رفضت أيضا المشاركة في العقوبات الغربية على موسكو، وسعت إلى لعب دور الوساطة بين موسكو وكييف، من خلال استضافة الاجتماع الوحيد لوزيري خارجية البلدين بعد الحرب، ورعاية صفقات لتبادل الأسرى، فضلاً عن رعاية اتفاقية لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، والتي تعد أكبر إنجاز للدبلوماسية التركية في هذا الصراع. كما عمّقت علاقتها التجارية والاقتصادية مع روسيا بعد الحرب. بقدر ما أن نهج التوازن مكّن الرئيس التركي أردوغان من الحدّ من تداعيات الحرب على بلاده ومصالحها المتداخلة مع روسيا والغرب، فإنه ساعدها أيضاً على تعظيم أهميتها الجيوسياسية في السياسات الدولية.
نتيجة موقفها المتوازن ورفضها المشاركة في العزلة الغربية على روسيا، كافأ الرئيس الروسي بوتين تركيا بتمكينها من لعب دور الوساطة بين موسكو وكييف، وتسهيل جهودها لإبرام اتفاقية الحبوب التي جعلت نهج التوازن التركي مصلحة للعالم، كونه ساعد في الحدّ من مخاطر حدوث أزمة غذاء عالمية. كما حوّلت شركة روساتوم الروسية نحو خمسة مليارات دولار إلى شركة أكويو نيوكلير التي تبني محطّة للطاقة النووية في تركيا بتكلفة 20 مليار دولار قبالة ساحل البحر المتوسط، ما خفّف من المخاوف بشأن تأجيل المشروع بسبب العقوبات المرتبطة بالحرب. علاوة على ذلك، أبقت روسيا على صادرات الغاز الطبيعي التي تمرّ عبر تركيا إلى أوروبا على حالها، وعرضت إنشاء مركز لبيع الغاز في تركيا إلى أوروبا، وهو ما يُساعد طموحات أنقرة في التحوّل إلى مركز عبور رئيسي للطاقة في العالم. كما تجري أنقرة منذ مدة مفاوضات مع موسكو من أجل الحصول على خصوماتٍ في مشتريات الغاز الروسي، وتأجيل مدفوعات مستحقّة عليها. في غضون ذلك، انعكست العلاقات الدافئة بين موسكو وأنقرة بعد الحرب على الشراكة التركية الروسية في سورية. تعمل موسكو منذ مدة على التوسّط بين أنقرة ودمشق من أجل إصلاح العلاقات بينهما، كما وافقت على منح تركيا هامشاً أكبر في التحرّك العسكري لمواجهة وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سورية.
نجحت أنقرة في تعظيم فوائدها الجيوسياسية بالنسبة لروسيا والغرب أكثر من أي وقت مضى
في المقابل، ساعد الموقف المتوازن في الحرب تركيا في تحسين علاقاتها مع الدول الغربية بشكل جزئي. منذ اندلاع الحرب، زار قادة غربيون أنقرة بعد سنوات من توتر العلاقات، في مسعى إلى إقناع تركيا بالفوائد العالية للشراكة مع الغرب. كما وعد الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره التركي أردوغان بتسهيل بيع تركيا مقاتلات إف ستة عشر. لكنّ الحرب ساعدت أنقرة أيضاً على فرض قائمة مظالهما مع الغرب على الطاولة. عارضت تركيا ضم فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ونجحت في انتزاع تعهدات من البلدين باتخاذ إجراءات لتقييد نشاط منظّمات تُصنفها تركيا إرهابية على أراضيهما، ورفع حظر الأسلحة المفروض على تركيا منذ عام 2019. على الرغم من أن إشكالية توسيع "الناتو" لا تزال قائمة بفعل المعارضة التركية المستمرّة، إلا أن هذه القضية فرضت على الغرب تبنّي نهج إيجابي في مقاربة العلاقة مع تركيا. الولايات المتحدة على سبيل المثال، سعت إلى تقديم إغراءات لتركيا من أجل التخلي عن معارضة ضم فنلندا والسويد إلى الحلف، من خلال وعود إضافية بتسريع عمليات بيع مقاتلات إف 16 لها. كما أصبحت واشنطن أكثر حذراً في إدارة علاقاتها مع تركيا واليونان بشكل متوازن.
في الواقع، نجحت أنقرة في تعظيم فوائدها الجيوسياسية بالنسبة لروسيا والغرب أكثر من أي وقت مضى. في حين أن الدول الغربية سعت، في البداية، إلى دفع تركيا للانخراط في جهودها لعزل روسيا على الساحة الدولية، إلآّ أنها أضحت، بمرور الوقت، أكثر اقتناعاً بجدوى بقاء تركيا على الحياد. إلى جانب الدور الذي لعبته في التوسّط لإبرام ممرّ الحبوب في البحر الأسود، كانت أنقرة ولا تزال الطرف الوحيد القادرة على التحدّث مع روسيا. وقد لعبت سياسة القادة بين أردوغان وبوتين دوراً مهماً في الحدّ من تصعيد الصراع بشكل أكبر، وترك فرص للدبلوماسية للتحرّك. كما استطاعت أنقرة الحدّ من مخاطر حدوث مواجهة نووية بين روسيا والغرب من خلال استضافة اجتماعات لقادة استخبارات روسيا والولايات المتحدة على أراضيها. مع أن قدرة تركيا على لعب دور أكبر في مجال الوساطة بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحرب محدودة، إلا أنه لا يزال في مقدورها لعب هذا الدور في المستقبل، بفعل الثقة التي تحظى بها من موسكو وكييف.
لا يزال في مقدور أنقرة لعب دور الوساطة في المستقبل، بفعل الثقة التي تحظى بها من موسكو وكييف
مع ذلك، لم يخلُ نهج التوازن التركي من مخاطر. أجبر التلويح الأميركي بفرض عقوبات ثانوية على تركيا البنوك الحكومية التركية على التراجع عن التعامل مع نظام مير المصرفي الروسي، والتدقيق بشكل أكبر في التعاملات التجارية والمالية مع روسيا، لتجنّب التعرض للعقوبات. في الوقت الراهن، بدا أن تركيا قادرةٌ على الحدّ من تداعيات سلبية لنهج التوازن من خلال تأكيدها عدم السماح لروسيا باستغلال العلاقات الاقتصادية معها من أجل التهرّب من العقوبات. لقد كان لنهج التوازن أيضاً فوائد كبيرة على الرئيس أردوغان في الداخل. تُشير استطلاعات الرأي التي أجريت أخيرا إلى تحسّن شعبية أردوغان، بسبب النهج الذي يُدير به موقف تركيا من الحرب، وبسبب الفوائد الاقتصادية التي جنتها تركيا من العلاقات التجارية مع روسيا، والتي انعكست إيجابيا على الاقتصاد التركي.
قدرة أنقرة على مواصلة توظيف نهج التوازن لمصلحتها مرهون بثلاثة أمور أساسية: الإبقاء على دورها وسيطا في الحرب، تركيز جهودها على إحداث توازن في مصالحها مع روسيا والغرب، الحفاظ على نهج الحياد العسكري من خلال مواصلة تفعيل اتفاقية إلى حين انتهاء الحرب. يمكن القول إن نهج التوازن بعد عام من الحرب أصبح أكثر متانةً بفعل حاجة روسيا والغرب له على حد سواء.