هل مغادرة المركب الحلّ الأجدى؟
في بادرة وعي سياسي لافت للغاية، أعلن لاجئون سوريون في ألمانيا، منضوون أعضاء عاديين أو قياديين في حزب الخضر اليساري الألماني، استقالتهم من عضويته احتجاجًا على دوره الصامت في الائتلاف الحكومي القائم في برلين، وكذلك أمام موافقة قيادة الحزب على السياسات الأوروبية الجديدة، التي ساهمت في رسمها الحكومة القائمة، في ما خصّ مسألتي اللجوء والهجرة. ويأتي هذا الإعلان في خضمّ موجة تراجع كاسح لدور اليسار الأوروبي، بأنواعه وانقساماته، أمام الصعود المتسارع لليمين المتطرّف في الخطاب، وفي الممارسة لدى مجمل الأحزاب السياسية الأوروبية التقليدية من جهة، وتنطّح المجاهرين بأفكار التطرف والعنصرية وكره الأجانب والتفوق العرقي لإبراز عقائدهم من دون خجل ولا وجل في المشهد العام، واستعراضها كبرامج انتخابية تلقى القبول والتصويت من جهة أخرى.
وكان النموذج الألماني قد برز سابقًا، وخصوصًا بدءًا من سنة 2015، من خلال سياسة الانفتاح على اللاجئين التي انتهجتها حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، المنتمية إلى الحزب الديمقراطي المسيحي ذي التوجّه اليميني. ويبدو أن تراجعًا كبيرًا يُسجّل في التعامل مع هذا الملف في ظل حكومة ائتلافية يتزعّمها اليسار الاجتماعي، ممثلاً برئيسها الحالي أولاف شولتس، المنتمي إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، يساري التوجّه نظريًا. وعلى الرغم من أن الحكومة الحالية تضمّ أحزابا يمينيّة تقليدية أساسية، ولكنها تضمّ أيضًأ، وخصوصًا، حزب الخضر المعروف، سابقًا، بمواقفه المنفتحة على الآخر والداعمة لحقوق الأجانب وتمتّعهم باستقبال إنساني وبانفتاح اقتصادي وبمساعدة اجتماعية.
اعتقاد بأن السير مع التيار سعيًا إلى اقتناص فرصة ما للخروج عنه عند الشعور بضعفٍ ما حلّ به هي الأجدى من مواجهته وجهًا لوجه
ويعتقد أغلب المدافعين عن التوجّه الجديد لحزب الخضر، الذي يتميّز بموقف مهادن إلى حد المحاباة للسياسات العامة المتفق عليها أوروبيًا إزاء ملفّ الهجرة واللجوء، بأن السير مع التيار سعيًا إلى اقتناص فرصة ما للخروج عنه عند الشعور بضعفٍ ما حلّ به هي الأجدى من مواجهته وجهًا لوجه، خصوصًا إن كان هذا التيار جارفًا لا يتعامل مع العقبات والمصاعب التي تواجهه إلا بالاصطدام والتنحية. إنها سياسة الواقعية في السياسات العامة وإدارتها للخروج بأفضل ما هو سيئ للحيلولة دون الوقوع في وحل الأسوأ.
هذا الانسحاب المعلن من فعل المواجهة، وهو الذي تميّز أعضاء حزب الخضر بإعرابه وتصريفه خلال سنوات وجودهم في المشهد السياسي الألماني، إن كان في المحصّلة يهدف، فيما يهدف، إلى انتهاز الفرصة المناسبة للعودة الحميدة والفاعلة لمواجهته، فسيكون حينها هو الأسلوب الأنجح والمسار الأجدى من مجرّد مغادرة المركب المتّجه يمينًا في عرض المحيط. بالمقابل، ما حصل أن موافقة قيادة الخضر على انتهاج المسار الجديد، يميني الانتماء والتوجّه، في التعامل مع ملفّ الهجرة، يُسجّل تخاذلاً تاريخيًا يقع على الأعضاء، وخصوصًا من الجيل الشاب المتحمّس، وقع الصاعقة.
وقد سبق أن ناقش المؤتمر العام للحزب، الذي عُقِدَ في مدينة كارلسروه أربعة أيام في الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، موقف الحزب وقياداته الحالية من المعالجة السلبية والقائمة لملفّ الهجرة أوروبيًا ومحليًا. وقد برزت إلى العلن فجوة واسعة خلال هذا النقاش بين القيادة والقاعدة خصوصًا الشباب فيها. وصار واضحًا للعلن حجم الاختلاف القائم بين الأجيال في معالجة هذا الملفّ، إما انطلاقًا من تحليل إنساني يأخذ بالاعتبار ضرورة التنظيم القانوني المناسب من جهة، ويعترف بضرورة التعامل بحذر وبأفكار بنّاءة معه، أو انطلاقًا من موقف سياسي تفاوضي براغماتي، يسعى، قبل كل شيء، إلى الحفاظ على المكاسب السياسية القائمة، كونها المشاركة الأبرز للخضر في موقع اتّخاذ القرار السياسي والاقتصادي والعسكري الوطني.
هل مغادرة حزب الخضر الحلّ الأمثل في هذا الخضّم الملوّث في السياستين الخارجية والداخلية؟
تراجع الخضر عن مواقفهم المعروفة تاريخيًا في ما يرتبط بمسألة الهجرة واللجوء، المترافق مع قبولهم للتشديدات الأوروبية والمحلية الحكومية في التعامل معها، يترافق بتراجع فاضح آخر مرتبط بالسياسة الخارجية الألمانية، التي تديرها الوزيرة أنالينا بيربوك، المنتمية لحزب الخضر، منذ إعلان الائتلاف الحاكم سنة 2021. وقد وضح هذا التراجع إثر العملية العسكرية التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غلاف غزّة، والتي أدّت في ما تلاها إلى هجوم إسرائيلي انتقامي وتدميري كاسح لمجمل قطاع غزّة المحاصر منذ أكثر من 17 عامًا. وكما غيرها من الدول الغربية، سارعت الحكومة الألمانية إلى التنديد بأقسى الكلمات بعملية "حماس" مؤيدةً بشكل غير مقيّد لحقّ الدولة الإسرائيلية، التي يقودها اليمين المتطرّف، في ما سمته بـ"الدفاع عن النفس". وقد زارت الوزيرة الآتية من حزب الخضر دولة الاحتلال مرّتين للتعبير عن تضامن حكومتها مع أي خطوة إسرائيلية انتقامية. وعندما وضحت الصورة، وبدأت أعداد الضحايا من الفلسطينيين تقارب الآلاف، رفضت الحكومة الألمانية، من دون أي اعتراض من الوزيرة "الخضراء"، أي مسعى إلى وقف إطلاق النار حفاظًا على حياة المدنيين الفلسطينيين.
هل مغادرة حزب الخضر الحلّ الأمثل في هذا الخضّم الملوّث في السياستين الخارجية والداخلية؟ ومن دون الغوص في التفاصيل، خصوصًا أننا لا نمتلك عناصرها، يمكن الظنّ أن البقاء في المركب سعيًا إلى تحفيز همم الجيل الجديد لاعتماد سياسة أخلاقية أكثر وضوحًا، تسعى إلى تعديل توجّه دفته يمكن أن يكون أجدى.