هل تُبحر كازاخستان عكس رياح روسيا؟
تتحوّل آسيا الوسطى، بشكل متزايد يوماً بعد يوم، إلى ساحة للمنافسة بين الصين، جارتها العملاقة التي لها مصالح في مجالات عديدة، والولايات المتحدة التي أرادت تعزيز هيمنتها بعد الانتصار في الحرب الباردة، وإضعاف روسيا مع انهيار الاتحاد السوفييتي، واستقلال الجمهوريات التي كانت تحت عباءته. وفسّرت نخب هذه الدول استقلالها مع انهيار الاتحاد السوفييتي بأنه استقلال عن موسكو، ما جعلهم يعتمدون على مراكز القوى الأخرى، بكين وواشنطن، وأنقرة جزئياً، إلا أنها تناشد روسيا وتلجأ إليها عند التهديدات القصوى، كما حدث مع كازاخستان مطلع العام الجاري (2022)، ومع طاجيكستان خلال الحرب الأهلية أوائل التسعينيات.
ويرى بعضهم أن الرعونة في السياسة الخارجية الروسية لإدارة ملف دول الاتحاد السوفييتي السابق، مع قصر النظر الاستراتيجي لقيادة الجمهوريات المستقلة، أدّت إلى جعل تلك الدول مسرحاً للتنافس بين اللاعبين الدوليين، كما أدّت هيمنة مبدأ المساواة الشكلية في العلاقات الدولية على محتواها الواقعي والحقيقي إلى خسارة كبيرة للنفوذ الروسي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي.
اعتبرت الدول السوفييتية السابقة أن من الطبيعي أن تقدّم روسيا لهم المزايا السياسية والتفضيلات الاقتصادية، مقابل الصداقة الرسمية والمشاركة في هياكل الاندماج التي أنشئت تحت رعاية روسيا، الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. وفي الواقع، تستخدم الدول الأعضاء أي منصّة تكامل في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي لترويج (وتقديم) مصالحها الوطنية، والتي تتغيّر اعتماداً على المعادلات الإقليمية - الدولية، المعلن منها أو وراء الكواليس.
وفقاً للتصريحات الرسمية الروسية، أي دولةٍ تدعم الحرب التي شنّها الغرب ضد روسيا تصبح غير صديقة
ويكشف السلوك الصريح لرئيس كازاخستان، قاسم جومارت توكاييف، في زيارته روسيا قبل أيام، مثالاً واضحاً على الاعتبارات أعلاه، من خلال تصريحه عن التزام بلاده بسياسة العقوبات المناهضة لموسكو، والذي يضع كازاخستان في موقف دولةٍ غير صديقة لروسيا. ومع أنه، وفقاً للتصريحات الرسمية الروسية، أي دولةٍ تدعم الحرب التي شنّها الغرب ضد روسيا تصبح غير صديقة، إلا أن من غير المتوقع أن يعترف المسؤولون الروس بذلك علناً حيال كازاخستان، وهم الذين اعتادوا التحدّث عن ذلك بوضوح، حتى تركيا الدولة العضو في حلف الناتو، التي تتخذ موقفاً مؤيداً لكييف علناً، لم تعلن دعمها نظام العقوبات.
ويأتي موقف رئيس كازاخستان هذا بعد أشهر على طلبه المساعدة الأمنية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، والتزمت بسهولة بإرسالها قوات، مع انتشار الاحتجاجات، ووصولها إلى الماآتا، أكبر مدن كازاخستان. ولم تمض سوى عدة أشهر على استعادة الهدوء في البلاد، بعد دخول قوات حفظ السلام من المنظمة التي يُنظر على أنها حلف ناتو على الطريقة الروسية. وما تلا ذلك من سرعة إعلان نجاح مهمة تلك القوات، وبدء انسحاب وحدة حفظ السلام من الجمهورية بعد أيام من وصولها.
تثير تصريحات مسؤولين روس، بين حين وآخر، والداعية إلى ضم أجزاء من أراضي دول سوفييتية سابقة، مخاوف كازاخستان ودول أخرى
بالإضافة إلى ذلك، تحدّث توكاييف في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، رداً على سؤال بشأن موقف بلاده من لوغانسك ودونيتسك، الإقليمين الانفصالين اللذين اعترفت بهما روسيا جمهوريتين مستقلتين، أن هناك آراء مختلفة في كازاخستان في هذا، لكن القانون الدولي الحديث هو ميثاق الأمم المتحدة، فيما المبدآن الرئيسيان المجسّدان فيه أصبحا متعارضين مع بعضهما: وحدة أراضي الدولة وحق الشعوب في تقرير المصير. كما لاحظ الرئيس الكازاخستاني، مع وجود مبدأين متناقضين، أن هناك تفاهمات ومواقف مختلفة، حيث يقول بعضهم إن وحدة أراضي الدول شيء أساسي، بينما يقول آخرون إن أي شعب هو جزء من دولة، وله الحق في دولته الخاصة، ويمكنه إنشاء دولته الخاصة ضمنها، والانفصال عنها متى شاء. ويعتبر أنه إذا كان حق الشعوب في تقرير المصير ينظم فعلياً في جميع أنحاء العالم، فبدلاً من 193 دولة الآن أعضاء في الأمم المتحدة، ستظهر نحو 600 دولة، وبالطبع، ستكون الفوضى عارمة. وختم توكاييف "لهذا السبب، لا نعترف بتايوان أو كوسوفو أو أوسيتيا الجنوبية أو أبخازيا، ويبدو أنه سيجري تطبيق هذا المبدأ أيضاً على مناطق شبه الدولة، والتي في رأينا، هي لوغانسك ودونيتسك".
وتثير تصريحات مسؤولين روس، بين حين وآخر، والداعية إلى ضم أجزاء من أراضي دول سوفييتية سابقة، مخاوف كازاخستان ودول أخرى، إذ هناك أقليات روسية تصل في بعضها إلى 22% من التركيبة الديموغرافية، وتخشى هذه الدول تكرار سيناريوهات شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا.
يبقى القول، بالنسبة لموسكو المنخرطة في حرب وجودية مع الغرب، من الضروري مراجعة منطق هياكل التكامل السياسية والاقتصادية والعسكرية ووظائفها في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، والمفترض أنها مؤيدة لروسيا، مع أهمية التفاهم المتبادل للمصالح الاستراتيجية بين موسكو وبكين، والذي يمكنه الحدّ من التوسع الغربي في آسيا الوسطى، ويمنع التهديدات من أفغانستان المضطربة، لحماية أمنهم من تحول المنطقة الى بؤرة توتر تقلق روسيا والصين وتشغلهما.