عرين الأسود... هل تنطلق الفصائلية الفلسطينية الثالثة؟
مع استشهاد خمسة شبان فلسطينيين، يُعتقد أنّهم من تشكيل عرين الأسود، في نابلس، صباح الثلاثاء 25 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ثم تشييعهم في حشد جماهيري ضخم، وتفاعل في مجمل الضفة الغربية، تبدو الأحداث فلسطينياً على مفترق طرق؛ بين انعطافة تؤدّي إلى فصائلية من نوع جديد، أو العودة إلى نمط المجموعات العسكرية الفدائية التي سادت في نهاية الانتفاضة الأولى وفي الانتفاضة الثانية. والفرق بين الحالتين أنّ "الفصائلية الجديدة" تعني استمرار الظاهرة واكتسابها حاضنةً جماهيريةً منتفضة واتساع النضال الشعبي. أما العودة إلى النمط السابق، فسيجعل الحدث أقرب إلى موجة ضمن موجات مقاومة مستمرّة، يمكن استهدافها بعمليات عسكرية إسرائيلية.
كانت جنين، خصوصاً مخيمها، محور تطور الظاهرة منتصف العام الفائت (2021)، ثم وصلت إلى نابلس، مع تسارع وزيادة في الزخم، والظاهرة مرشّحة للانتقال إلى وسط الضفة الغربية وجنوبها. أحد الاختلافات الرئيسية بين ما حصل في جنين ونابلس، وما كان يحدُث في الماضي، نشوء نوع من التنظيم المحلي الذي يعني، بالدرجة الأولى، بالدفاع عن المحيط الجغرافي لهذا التنظيم ضد الاجتياحات الإسرائيلية، وضد اعتداءات المستوطنين، مع حاضنة شعبية. وقد ظلت هذه التشكيلات إلى حد كبير تعمل في حدود عام 1967، وبنمط دفاعي، أو دفاعي ضاغط، بمعنى أنّ خروجها من قواعدها في مخيم جنين، والبلدة القديمة في نابلس، يكون للدفاع عن مواقع مثل قبر النبي يوسف، في نابلس، ضد زيارات المستوطنين، أو لاستهداف الجنود في محيط أماكن وجود المجموعات.
هذا النمط من العمل الحالي قريب من نمط العمل النضالي الفلسطيني في ثورة العام 1936، حيث توجد تشكيلات محلية، في الريف بالدرجة الأولى، لكنّها، بشكل عام، كانت تشكيلات غير مرتبطة بالأيديولوجيا، أو بتنظيماتٍ مركزيةٍ عابرة للحدود، بل كانت تنظيماتٍ محليةً قائمة على التصدّي للمشروع الصهيوني.
الفصائل التقليدية غير موجودة أو ضعيفة للغاية في مختلف أماكن وجود الشعب الفلسطيني
لقد أوجدت الفصائل الفلسطينية التي نشأت في الشتات، وأضيفت لها في الثمانينيات الفصائل الإسلامية، خصوصاً حركتا الجهاد الإسلامي وحماس، تنظيمات عابرة للمناطق، ولكنها منفصلة عن بعضها بعضا، في المنطقة الواحدة. وكانت هذه الفصائل بالدرجة الأولى في الشتات، فكانت عابرة للمناطق والجغرافية الفلسطينية، وتمتاز ببنى تنظيمية وفكرية وإعلامية مؤسّساتية شبه رسمية وعلنية، وكان امتدادها في الوطن حتى نهاية السبعينيات يعتمد على فكرة الخلايا السرّية صغيرة الحجم.
عندما نشطت المقاومة الشعبية في فلسطين، بدءاً من نهاية السبعينيات، بعد انتشار الجامعات الفلسطينية، ونشوء منظّمات شبيبة ونسائية وعمل أهلي، بقيت هذه مرتبطةً بالفصائل. وفي نهاية الثمانينيات، في نهاية الانتفاضة الأولى، بدأت تشكيلاتٌ مسلحةٌ ومجموعات بدأت في مناطق بعينها، مثل الفهد الأسود في جنين ونابلس، واتضح ارتباطها بفتح، وصقور فتح (غزّة)، ثم النسر الأحمر (الجبهة الشعبية)، أمّا عز الدين القسّام (حماس) فكان جناحاً مسلحاً مركزياً لحركة حماس أكثر منه مبادرة شعبية في منطقةٍ بعينها كما في حالات باقي المجموعات. وبقيت المبادرات الشبابية تدور في فلك الفصائل المركزية، حتى في حالة انتفاضة الأقصى (عام 2000) التي سرعان ما تطوّر فيها جناح مسلّح لكلّ فصيل مركزي.
ما ينشأ على الأرض تنظيم اجتماعي مقاوم، يتعدّى فكرة المجموعات المسلحة والخلايا
ويمكن وصف الظهور الجديد، بالفصائلية الثالثة، (الأولى في ثورة 1936- 1939، والثانية الفصائلية التي بدأت في الستينيات). تتّسم مجموعات جنين ونابلس بسمات تختلف، أهمها أنّها "فصائل" مستقلة متوسطة الحجم (نحو 30 شخصاً)، ومرتبطة بمناطق جغرافية أكثر منها بتنظيماتٍ، وقائمة على مبادرات شخصية، وتمويل ذاتي (أو هكذا بدأت على الأقل). وكلمة فصيل لغةً، وفي الاصطلاح العسكري، تعني، في الواقع، مجموعات مسلحة من 20 إلى 30 شخصاً.
تقدّمت هذه الفصائل الجديدة على التقليدية، وخصوصاً حركتي فتح وحماس، وسبقتها، وتركت الجمهور يتساءل بشأن موقف الفصائل القديمة من المجموعات/ الفصائل الجديدة. وباتت هذه الأخيرة تجاهد لتثبت علاقتها الإيجابية مع هذه الفصائل الجديدة، فحركة حماس سعت إلى ترويج فكرة أنّها تقدّم الدعم المادي والمعنوي للمجموعات، الجديدة، وأنّ هذه المجموعات، حتى المرجعيّة الفتحوية ذاتها، (مثل الشهيد إبراهيم النابلسي) يلتقون مع "حماس" ويتلقون دعمها. بالمثل، فإنّ "فتح"، وحتى القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، وأجهزة أمنية، باتت تحرص على إبراز انتماء عناصر في الفصائل الجديدة لها، وباتت تعلن صراحةً الاصطفاف مع هذه الظاهرة. وتدريجياً يتضح أنّ خيار المواجهة الأمنية مع هذه المجموعات غير قائم، وأنّ التبنّي الإعلامي والسياسي للظاهرة موجود، وأنّ الأجهزة الأمنية إن لم تصطفّ "خلف" هذه المجموعات ومعها لن تكون ضدّها.
تراجع الفصائل التقليدية وافتقادها البنية السياسية والتنظيمية الفاعلة في الضفة الغربية، وتحديداً في مواجهة الاحتلال والاستيطان، جعل المبادرة تعود إلى الميدان، ما سمح بالفعل الشعبي المتطوّر من حالات فردية وخلايا صغيرة إلى مجموعاتٍ أوسع، شكّلت فصائلية جديدة، بدأت تطوّر خطابها وآليات تحريك الجمهور، من خلال إعلان إضرابات وتظاهرات تجاوب معها الشارع.
تراجع الفصائل التقليدية وافتقادها البنية السياسية والتنظيمية الفاعلة في الضفة الغربية، جعل المبادرة تعود إلى الميدان
يكشف فيديو طويل نسبياً لعشرات أمهات الشهداء وأخواتهم وزوجاتهم اللاتي جئن لتعزية أم "شهيد جديد"، أن نوع من التنظيم الاجتماعي، أو الشبكة الاجتماعية، تنشأ إسناداً لهذه الفصائل الجديدة. بهذا المعنى، ما ينشأ على الأرض تنظيم اجتماعي مقاوم، يتعدّى فكرة المجموعات المسلحة والخلايا. وما حدث في نابلس هذا الأسبوع من اعتداءات إسرائيلية يهدف، في جزءٍ منه، محاصرة الظاهرة في مهدها، وإعادتها لتكون مجموعات شبابٍ مسلّحٍ يعمل سرّاً.
ليس المطلوب الآن عودة الفصائل التقليدية، لاحتواء المشهد، وهناك بوادر تنشيط مجموعات بأسماء الفصائل التقليدية، مثل العودة إلى استخدام اسم "كتائب شهداء الأقصى". بل تستحق تجربة الوحدة المناطقية وإنشاء التشكيلات العابرة للفصائل المراهنة عليها من حيث تقديم نمط جديد، يجمع الانتفاضة الأولى بشقّها الاجتماعي والمناطقي وفكرة الدفاع المسلّح ضد الانتهاك الإسرائيلي اليومي. لكن العودة إلى مجموعات الفصائل التقليدية والعسكرة التقليدية، خصوصاّ إذا ذهبت هذه المجموعات للردّ على الجرائم الإسرائيلية، بالمبادرة بعملياتٍ منوعةٍ هجومية، فإنّ هذا تكتنفه مخاطر كثيرة، منها سهولة استهداف هذه المجموعات، وتشتّت أهدافها بين فصائل مختلفة، ومن دون حاضنة جماهيرية.
التطور الطبيعي الإيجابي لهذه الظاهرة استمرار نمو الحاضنة الجماهيرية، والنضال الجماهيري، والتأكيد على الوحدة العابرة للفصائل، وفي المدى المؤقت على الأقل، على طابع دفاعي في حدود 1967، وصولاً إلى حالة اشتباك يومي فيه شقّ مدني جماهيري. بل تستحقّ التجربة أن تنتشر وتعمّم مع مضمون اجتماعي مدني إعلامي، في الشتات الفلسطيني، فالفصائل التقليدية غير موجودة أو ضعيفة للغاية في مختلف أماكن وجود الشعب الفلسطيني، ووجودها العلني الرسمي لا يلقى قبولاً شعبياً فلسطينياً، أو من حكومات (وشعوب) الدول المضيفة لذلك، فيمكن التركيز على تشكيل مجموعاتٍ من الناشطين لتأكيد نشاطاتٍ توعويةٍ وتعبويةٍ توجه للشعب الفلسطيني وحفظ هويته، ولمخاطبة الشعوب الشقيقة والصديقة، وحكوماتها، مع بقاء الفصائل في النشاطات شبه الرسمية والإعلامية والسياسية والفكرية.