هل تنجح إدارة بايدن في استدراج السعودية إلى التطبيع؟

05 اغسطس 2023

ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي بايدن في جدّة (15/7/2020/Getty)

+ الخط -

أثار مقال توماس فريدمان في 27/7/2023 في صحيفة نيويورك تايمز، تحت عنوان "بايدن يبحث طرح صفقة كبرى في الشرق الأوسط"، ضجّة ما زالت أصداؤها تتردّد بقوة في أماكن كثيرة، خصوصا الولايات المتحدة وإسرائيل والعالم العربي. المثير أن هذا المقال، عن حرص إدارة الرئيس الأميركي بايدن على التوصل إلى صيغة تسمح بتطبيع العلاقة بين السعودية وإسرائيل، لا يأتي بجديد من حيث المضمون، فاهتمام الولايات المتحدة بهذا الموضوع مسألة معروفة، وكذلك الشروط التي تطالب الرياض باستيفائها قبل الإقدام على خطوة كهذه كانا في مقدّمة الأمور التي أشارت تقارير إعلامية عديدة إليها في الشهور القليلة الماضية، وتناولها بالشرح والتحليل مقال لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد"، نشر في 8/6/2023 تحت عنوان "في تطبيع العلاقات بين السعودية والكيان الصهيوني".

لذا، يمكن تفسير أسباب الضجة المثارة بأمرين: مكانة فريدمان في الوسط الإعلامي الأميركي وعمق صلاته بالنخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، وخصوصا أنه أشار إلى أنه استقى معلوماته من بايدن نفسه في لقاء خاص جمعه به قبل أسبوع من نشر مقاله. وتأكيد فريدمان في ما كتب أن إدارة بايدن أصبحت أكثر ميلا إلى القبول بالشروط والضمانات التي تطالب بها السعودية، وبالتالي خروج قضية التطبيع من نطاق التكهنات الصحافية إلى نطاق المفاوضات الفعلية الجادّة والواعدة، وخصوصا أنه كشف عن وجود كل من مستشار الرئيس بايدن للأمن القومى جاك سوليفان والمنسّق المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت مكجورك فى الرياض للتفاوض مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بشأن تفاصيل الصفقة التي تأمل إدارة بايدن التوصل إليها في هذا السياق.

ستكون السعودية الخاسر الأكبر من صفقة تبدو مصمّمة أصلا لاستدراجها نحو الوقوع في مصيدةٍ لا تقل إحكاما عن التي نُصبت لمصر في نهاية سبعينيات القرن الماضي

تستند الصفقة التي تعمل إدارة بايدن جاهدة على وضع اللمسات الأخيرة عليها في هذه الأيام إلى معادلةٍ يمكن صياغة مفرداتها على النحو التالي: ضمانات لأمن السعودية وفتح آفاق لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حلّ الدولتين، مقابل تطبيع العلاقة مع إسرائيل، فالسعودية تشترط هذين الأمرين، غير أن الدخول في تفاصيل الصفقة المأمولة يكشف عن قضايا تبدو أكثر تعقيدا وتشابكا، فالنظام الحاكم في السعودية يبحث أساسا عن أمن الدولة السعودية الذي يرى أنه يمكن أن يتحقق غبر وسائل ثلاث: معاهدة أمن جماعي مع الولايات المتحدة تُلزم الأخيرة بالدفاع عن السعودية في حال تعرّضها للعدوان من أي طرف خارجي، على غرار المعاهدة التي تربط الولايات المتحدة بالدول الأعضاء في حلف الناتو. رفع القيود المفروضة على بيع الأسلحة الأميركية الأكثر تطورا للسعودية، خصوصا ما يتعلق منها بطائرات F35 وبمنظومات الدفاع الجوي اللازمة لتغطية وحماية الأجواء السعودية ضد أي هجمات صاروخية أو جوية تتعرض لها. المساعدة على بناء برنامج نووي سلمي سعودي، يتضمن تخصيب اليورانيوم، تشرف عليه وتراقبه الولايات المتحدة.

ولأن النظام السعودي لا يريد أن يبدو وكأنه باع القضية الفلسطينية في مقابل مكاسب ومصالح خاصة، اشترط لتطبيع علاقته بإسرائيل أن تُقدم الأخيرة على خطوات معينة تجاه القضية الفلسطينية، ربما على غرار ما قامت به دولة الإمارات حين اشترطت للتطبيع مع إسرائيل أن تعلن الأخيرة عن نيّتها عدم ضم الضفة الغربية رسميا. غير أن تفاصيل الخطوات التي تقترحها الولايات المتحدة على إسرائيل في هذا الشأن تثير الدهشة، وربما تبعث على السخرية، فهي لا تقترح، على سبيل المثال، التطبيع التدريجي للعلاقات بما يتناسب مع خطواتٍ فعليةٍ تقوم بها إسرائيل على الأرض لضمان الوصول، في نهاية المطاف، إلى "حلّ الدولتين"، ولا تقترح، على سبيل المثال أيضا، إصدار قرار ملزم من مجلس الأمن، وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يتضمّن اعتماد المبادرة العربية أساسا للتسوية، ووضع جدول زمني يربط بين التقدّم المتزامن على صعيد عمليتي التطبيع والانسحاب، وإنما تقترح تطبيعا كاملا وفوريا للعلاقات بين السعودية وإسرائيل، مقابل خطوات تبدو لنا شديدة الرمزية، تتضمن إعلان إسرائيل التزامها: بعدم ضم الضفة الغربية في أي وقت، بعدم إقامة مستوطنات جديدة أو الإقدام على عمليات توسع في المستوطنات القائمة، بعدم إضفاء أي صفة قانونية على المستوطنات "غير الرسمية"، بتنفيذ ما ورد في اتفاقية أوسلو عن نقل بعض أراضي الضفة الغربية من نطاق المنطقة ج، الخاضعة كليا لسلطة الاحتلال، إلى نطاق المنطقتين أ و ب، الخاضعتين كليا أو جزئيا للسلطة الفلسطينية. في مقابل ذلك كله، على السلطة الفلسطينية عدم الاعتراض على تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، بل وإعلان تأييدها ودعمها الصريح اتفاق التطبيع بينهما.

ما حاجة السعودية إلى ربط أمنها عضوياً بأمن الولايات المتحدة، في وقت تبدو فيه مكانة الأخيرة في النظام الدولي في حالة تراجع أو تدهور مستمرّين؟ 

يتضح من هذه التفاصيل أن الصفقة الجديدة التي تقترحها إدارة بايدن صمّمت أساسا لخدمة مصالح كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في المقام الأول، فتمريرها سيتيح للولايات المتحدة تحقيق مكاسب جيوسياسية كبرى، تضمن لها عودة قوية إلى الشرق الأوسط بعد مرحلة أفول، ما سيساعد على تحسين قدرتها التنافسية في مرحلة يشتدّ فيها الصراع على قيادة النظام الدولي. وسيتيح لإسرائيل، في الوقت نفسه، النفاذ ليس إلى قلب منطقة النفوذ المالي في الخليج فحسب، وإنما أيضا إلى أكثر الأماكن قداسة وتأثيرا على العالم الإسلامي ككل. أما السعودية فستكون الخاسر الأكبر من صفقة تبدو، في تقديري، مصمّمة أصلا لاستدراجها نحو الوقوع في مصيدةٍ لا تقل إحكاما عن التي نُصبت لمصر في نهاية سبعينيات القرن الماضي، باستدراج أنور السادات إلى زيارة القدس، ثم حصاره وإجباره على التوقيع على معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل.

صحيحٌ أن السعودية تبدو ظاهريا وكأنها سوف تحقق مكاسب ملموسة من هذه الصفقة، خصوصا على الصعيد الأمني، فإبرامها معاهدة أمن جماعي مع الولايات المتحدة سيجعلها، من هذا المنظور، تبدو في حماية القوة الأعظم، وبالتالي قادرة على الارتقاء بعلاقاتها مع الولايات المتحدة إلى مصافّ الدول الأعضاء في حلف الناتو، أو إلى مصافّ دول مثل كوريا الجنوبية أو اليابان. لكن، ما حاجة السعودية إلى ربط أمنها عضويا بأمن الولايات المتحدة، في وقت تبدو فيه مكانة الأخيرة في النظام الدولي في حالة تراجع أو تدهور مستمرّين؟ وحتى بافتراض أن إيران ما زالت تشكّل تهديدا فعليا لأمن السعودية، فإن التعامل الأمثل مع تهديد كهذا لا يكون بالعودة إلى حظيرة النفوذ الأميركي أو بالتطبيع مع إسرائيل، وإنما بالعمل على تحسين العلاقة مع إيران، من ناحية، وبالتقارب والانفتاح على قوى دولية لا تقلّ أهمية في النظام الدولي، خصوصا الصين وروسيا من ناحية أخرى، وهو ما تحقّق بالفعل في الآونة الأخيرة، فمن شأن العودة إلى حظيرة النفوذ الأميركي أن تقضي على هامش المناورة الذي بدأت تتمتع به السعودية في الآونة الأخيرة. وقد يؤدّي، في الوقت نفسه، إلى تحجيم أو حتى وقف تطوير علاقاتها بالقوى الدولية الأخرى التي تتنافس على قيادة النظام الدولي. أما التطبيع مع إسرائيل فهو أكثر خطرا، لأنه قد يؤدّي إلى إثارة مشكلاتٍ لا داعي لها، ليس مع الشعب الفلسطيني فحسب، وإنما أيضا مع محور المقاومة في المنطقة ككل، بما في ذلك إيران، بل وربما مع الشعب السعودي نفسه، والذي لن يكون راضيا بالقطع على رؤية المتطرّفين الإسرائيليين الذين يمارسون القتل يوميا ضد الشعب الفلسطيني يدنّسون أرض الحرمين الشريفين. ويكفي أن يتأمل صنّاع القرار في السعودية ما جرى لمصر وفيها عقب توقيعها على معاهدة السلام مع إسرائيل، والتي أفقدتها الكثير من مكانتها الدولية، وقلصت من هامش الحركة المتاح لها على المسرح الدولي.

عقباتٍ كثيرة ما زالت تعترض طريق الوصول إلى صفقة جديدة تسعى إدارة بايدن جاهدة إلى تمريرها

أدرك أن عقباتٍ كثيرة ما زالت تعترض طريق الوصول إلى صفقة جديدة تسعى إدارة بايدن جاهدة إلى تمريرها، فليس من الواضح بعد ما إذا كان الكونغرس الأميركي سيوافق على ما تطلبه السعودية من ضماناتٍ أمنية، خصوصا مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يحرص الرئيس بايدن على الفوز فيها. وليس من الواضح بعد ما إذا كانت إسرائيل ستقبل بهذه الضمانات، وخصوصا أنها تمنح السعودية مزايا نسبية لا تتمتّع بها إسرائيل نفسها، رغم خصوصية علاقاتها بالولايات المتحدة. لذا يتوقّع أن تكون لها تحفّظات كثيرة على معظم الضمانات الأمنية التي تطلبها السعودية من الولايات المتحدة. والأرجح أن تطالب الولايات المتحدة باتفاقية أمن جماعي معها أسوة بالسعودية، وبضمانات تحول دون أن تؤدّي صفقات الأسلحة الأميركية المتوقعة إلى الإخلال بالتفوّق النوعي الذي تحرص عليه مع الدول العربية مجتمعة، كما ستظلّ شديدة الحساسية تجاه أي برامج نووية تملكها الدول العربية، حتى ولو كانت خاضعة لإشراف الولايات المتحدة ورقابتها (راجع نشرة معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل INSS، العدد 1748، في 2/8/2023).

أخلص مما سبق إلى أن نجاح الولايات المتحدة بتمرير صفقة من هذا النوع سوف يؤدّي بالقطع إلى إشاعة مزيد من الفوضى في المنطقة العربية، وتمهيد الطريق نحو مزيد من الهيمنة الإسرائيلية على مقدّرات المنطقة، ولن يؤدّي، في أي حال، إلى فتح الطريق نحو تسوية عادلة وحقيقية للقضية الفلسطينية. لذا نأمل أن تنتبه السعودية إلى ما يحاك لها، وأن تنجح في الإفلات من الشرك المنصوب لها.

حسن نافعة
حسن نافعة
كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة