هل تلاشت أحلام العرب بالحرية والديمقراطية؟

29 يناير 2021
+ الخط -

إذا كان المطلوب تصدير حكم قيميٍّ، فلا شك أن حصيلة عشر سنوات بعد الثورات العربية، التي اصطلح على تسميتها "الربيع العربي"، تعد مخيبة للآمال، بل وكارثية، إذ انتهينا إلى قاع أكثر سوداوية من الذي كنَّا فيه من قبل. ولا يبدو أن ثمَّة حافزاً لدى الشعوب العربية اليوم لتقدم على محاولة تكرار تجربة عام 2011، يوم كان هدير الملايين من أبنائها يعزف لحن "الشعب يريد إسقاط النظام". كانت تلك لحظة فارقة في تاريخنا، لحظة "هرمنا من أجلها" فعلاً، ولكننا أضعناها بأخطاء ارتكبتها نخب الثورة والتغيير، ولا شك بمؤامرات محور الثورات المضادّة ومكائده، وبدعم أجنبي خارجي، غربي وشرقي. قد يكون ذلك من التاريخ الآن، ولكن الحقيقة أنه تاريخ مستمر ضمن نسق الصيرورة، وبالتالي فلا ماضيَ هنا، إذ إننا أمام حالةٍ من "مستقبل الماضي وماضي المستقبل"، إذا ما استعرنا تعبير المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة، رحمه الله.
لا أريد أن أستغرق في تفاصيل مؤامرات ومكائد محور الثورات المضادة الذي تنتمي إليه "الدولة العميقة". باختصار، نجح ذلك المحور، بدعم أجنبي، إقليمي ودوليٍّ، في جعل غالبية شعوب الدول العربية التي حدثت فيها ثورات يعضّون أصابع الندم على تفريطهم في أوهام "منجزاتٍ" و"أمنٍ" و"استقرارٍ" وفرتها أنظمة زالت مثل نظام زين العابدين بن علي في تونس، ونظام حسني مبارك في مصر، ونظام معمر القذافي في ليبيا، ونظام علي عبد الله صالح في اليمن، بل وحتى تحت نظام بشار الأسد في سورية، يوم كان الآمر الناهي، والحاكم المطلق في البلاد والعباد. لقد أوصل إجرام محور الثورات المضادّة شعوبا كثيرة إلى قناعة مفادها بأن التغيير لا يأتي إلا بالأسوأ وعدم الاستقرار ومزيد من العنف والقمع والفساد والانهيار الاقتصادي. تلك هَنْدَسَةٌ مدروسة لردع أي تفكيرٍ جديدٍ في الخروج من النفق المظلم الذي نعيش فيه، إذ إن العيش تحت حذاء حاكم واحد مطلق خير من تعدّد وطأة أحذية المتنافسين على السلطة!

رموز نخب التغيير والثورة تحاول أن تغسل أيديها من دورها في التسبّب بنكستها، وتسعى جاهدة إلى إعادة كتابة التاريخ، وكأنه غير موثق بالصوت والصورة والكتابة

أما في الضفة المقابلة، فإن نخب التغيير والثورة لم تكن أقلّ مساهمةً في خنق فرص "الربيع العربي" وإعدام أزهاره قبل إيناعها. اختلفت على تقاسم "كعكة" السلطة حتى وهي لم تحظ بها بعد. وافتعلت معارك إيديولوجية وسياسية وحزبية بين صفوفها، ونسيت خصمها الأساس الذي ثارت عليه. وأصبحت المسألة محاصصاتٍ انتخابية، ودعاوى امتلاك تفويضٍ شعبي، ونقضها، في مسعى إلى إحداث تغييرات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية عميقة، من دون وجود توافقات، ولا حتى رؤية متماسكة، أو دراسة واعية شاملة للضرورات والإمكانات. وانتهى الحال ببعضها إلى التحالف مع "الدولة العميقة" والمؤسسة العسكرية، كما جرى في مصر، بل وعمل بعض رموزها وكوادرها وكلاء لمحور الثورات المضادّة.
أمَّا ثالثة الأثافي فهي أن كثيراً من رموز نخب التغيير والثورة، وبعد مضي عقد على انطلاق الثورات العربية، تحاول أن تغسل أيديها من دورها في التسبّب بنكستها، وتسعى جاهدة إلى إعادة كتابة التاريخ، وكأنه غير موثق بالصوت والصورة والكتابة. تلك النوعية من الشخصيات معروفة، وشاشات التلفزة وصفحات الجرائد، حتى تلك المؤيدة للحرية والديمقراطية في الفضاء العربي، مفتوحة لهم اليوم، والتي من خلالها، وبوقاحةٍ لا يحسدون عليها، ما زالوا يمارسون دور الأستاذية على الشعوب وتيارات معينة ضمن تلك النخب، محمّلين إياها كل الرزايا والأخطاء، في حين يُبَرِّئون أنفسهم من أي مسؤولية. إنهم الشخصيات نفسها التي تتبنّى الاستعلاء والنزق والإلغاء والتسفيه والتحقير والحط من شأن الآخرين نهجاً لها، على الرغم من أنهم كانوا أول الساقطين في شباك خداع محور الثورات المضادّة و"الدولة العميقة" ومؤسسة العسكر.
إذن، من الزاوية المعيارية القيميةِ البحتة، المشهد قاتم، ولكنه ليس بالضرورة راكد، دع عنك أن يكون ميؤوساً منه. كيف؟

لا تملك الأنظمة غير الحلول الأمنية لمشكلاتها التي هي من صنع أيديها

صحيح أن "الدولة العميقة" استعادت زمام الأمور في بعض الدول، كما في مصر، في حين تصارع أخرى، كما تونس، للحفاظ على تجربتها الديمقراطية الهشّة، وتغرق ليبيا واليمن في فوضى وصراعات يؤجّجها محور الثورات المضادّة. أما سورية، فقد تحوّلت إلى ساحة صراع دولي وإقليمي، بشكل سمح للنظام بالبقاء، ولكن رهينة لروسيا وإيران والمليشيات المسلحة، الأجنبية الطائفية، والمحلية. لكن لا ينبغي لذلك أن يحجب عنا رؤية الواقع الآسن كما هو. إن جُلَّ الدول العربية ليست بأحسن حال اليوم ممَّا كانت عليه قبل عقد. القمع زاد وتضاعف مرّات ومرّات، والفساد أصبح يمارس جهاراً نهاراً من دون خشية أو رادع، والمديونية في تصاعد، والفقر يتسع ويتعمق، والناس عاجزةٌ عن توفير احتياجاتها، والمستقبل أمام الشباب يتلاشى، والدولة العربية القُطرية لا تملك رؤيةً ولا مشروعاً لتحيا به الحاضر، ولتعبر من خلاله إلى المستقبل. انظر إلى نماذج كما في مصر والأردن ولبنان والجزائر والسودان.. إلخ، أين لا تملك الأنظمة غير الحلول الأمنية لمشكلاتها التي هي من صنع أيديها. وإذا كانت جائحة كورونا قد زلزلت أركان اقتصادات كبرى كما في الولايات المتحدة وأوروبا وبقية العالم، فلك أن تتخيّل حجم الأضرار التي سببتها لدول فقيرة، كغالب الدول العربية. إن طوابير العاطلين من العمل التي تضاعفت بالملايين، في غياب بصيص أمل وأفق مستقبلي وعلو القبضة الأمنية الخشنة، لن تبقى هامدة إلى الأبد. الانفجار مسألة وقت، ولكن بأي اتجاه وبأي كيفية؟ هذا ما لا يمكن الجزم به بعد.

من المبكر نعيُ الحلم العربي، غير أن الأحلام لا تتحقق من تلقاء نفسها، وإنما لا بد لها من رؤية ومشروع وقوى تعمل على تجسيدها

من ثمَّ، فإن الثورة قادمة لا محالة، ولكن ليس بالضرورة من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية، وإنما بسبب رباعية القمع والفساد والجوع وعجز الشعوب عن تصوّر مستقبل أفضل تحت الأنظمة القائمة. إذا حدث ذلك، فسنكون أمام إعصار مدمر، وليس أمام ربيع مزهر، اللهم إلا أن تتدارك نخب التغيير الأمر، وتبدأ حالاً وفوراً في التأسيس لمشروع يرنو نحو بناء المستقبل، وقبل ذلك إجراء مراجعاتٍ لأخطائها في العقد الماضي، مع تجنّب الاستغراق في توجيه أصابع اللوم، أو ممارسة الأستاذية الزائفة. النظام القمعي الرسمي العربي هو الوقود الأساس للثورة، حتى في الدول التي تعتبر نفسها محصّنة ضدها، بسبب غناها وتساوقها مع المشاريع الإمبريالية الغربية والصهيونية. كما أن المبالغة في الفعل تنقلب إلى عبء على صاحبها، أو كما يقول المثل الشعبي: "ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه". والنظام القمعي الرسمي العربي الفاشل يبالغ اليوم في فساده وطغيانه وجبروته على شعوبه، ولكل شيءٍ قدرة معينة على الاحتمال، وبعدها يكون الانفجار المدمر وغير الواعي.
هل تنجح نخب التغيير العربي في التأسيس لمشروع مستقبلي، وتأطير الانفجار القادم المتوقع؟ ربما، ولكن لا توجد دلائل على ذلك بعد. لهذا، من المبكر نعيُ الحلم العربي، غير أن الأحلام لا تتحقق من تلقاء نفسها، وإنما لا بد لها من رؤية ومشروع وقوى تعمل على تجسيدها واقعاً.