هل تفعلها محكمة العدل الدولية؟

09 يناير 2024
+ الخط -

بعدما فشل مجلس الأمن مراراً، والجمعية العامة للأمم المتحدة تكراراً، وسقطت المحكمة الجنائية الدولية في الامتحان الفلسطيني مجدّداً، وأخفق غيرُها من المنظمّات الأممية ذات الصلة بوقف حرب الإبادة الجارية منذ ثلاثة أشهر وأزيد، تنعقد محكمة العدل الدولية في لاهاي، أواخر الأسبوع الحالي، للنظر في دعوى تقدّمت بها جنوب أفريقيا، تطلب فيها التحقيق في جرائم حرب إسرائيل على غزّة، ومقاضاتها بتهم ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك تجويع السكان وتهجيرهم، وارتكاب اعمال تفي بمعايير "إبادة شعب" وأفعال أخرى موثّقة في لائحة من 84 صفحة.
ولمّا كانت العدالة بطيئة، والمداولات القضائية تستغرق أزماناً طويلة، طلبت الدولة المشتكية من هذه المحكمة، وهي أعلى هيئة قضائية على الإطلاق، استخدام صلاحيتها الحصرية، التي لا تتطلب إجراء مناقشات ومصادقات في الأمم المتحدة، بإصدار قرار فوري ملزم، يقع ضمن صلاحياتها الحصرية، يقضي بوقف إطلاق نار فوري، وذلك إلى أن تنظر المحكمة، لاحقاً، في موضوع الدعوى المرفوعة، التي قد تستغرق شهورا، الأمر الذي يشير إلى أن الغاية الملحّة، وراء الدعوى، حمْل القوة القائمة بالاحتلال على اتخاذ  قرار احترازي مؤقت بإيقاف حرب الإبادة على غزّة.
كان مفاجئاً أن دولة الاحتلال، التي درجت على ازدراء كل المنظمّات الدولية، واعتبرت نفسها دولة فوق القانون، وفي مأمن من أي مساءلة دولية، قرّرت على غير عادتها المشاركة في المداولات، وتعيين رئيس المحكمة الإسرائيلية العليا، أهرون باراك، للترافع عنها، بعد أن عدلت عن قاضِ أميركي شهير لهذه المهمة (اتضح أنه متورّط في فضائح جنسية) كونها موقّعة، منذ عام 1950، على قانون مكافحة جرائم الإبادة، لعلها تنجو من حكم إدانة شبه محتّم، سوف يصدر مهما تأخّر صدورُه، وكونها أيضاً غير قادرة على رمي هذه المحكمة الوازنة بتهمة الانحياز أو التسييس أو عدم الولاية القانونية، وفوق ذلك أن واشنطن لا تستطيع تقديم التغطية السياسية المعتادة أمام محفل قضائي مرموق.
ما يزيد من وطأة "العدل الدولية" على دولة الاحتلال أنها محكمة لا يتم الطعن بأحكامها، تتمتّع، في حد ذاتها، بقوة أخلاقية، وتُشكّل مرجعيةً تعلو ولا يُعلى عليها، كما أن صاحبة الدعوى هي جنوب أفريقيا، التي كان شعبُها ضحية نظام الأبارتهايد الكريه، وأنها هي أيضاً دولة ذات سمعة رفيعة ومكانة محترمة بين الأمم، ولديها خبرة متراكمة على هذا الصعيد، أهّلتها للقيام بمهمّة قانونية مُتقنة، يصعب المحاجاة ضدّها، ولديها الكفاءة المهنية لجلب دولة مارقة ومحصّنة سياسياً إلى رواق العدالة، ومواجهتها بالأدلة والوقائع الجرمية المثبتة بالمشاهد المصوّرة والمواقف والتصريحات الصادرة عن مسؤولين صهاينة من الصف الأول، دعوا فيها إلى السحق والمحق والإبادة، وكل ما يقع من جرائم تبرّر الدعوى المرفوعة.
ومع أن هذه المحكمة سبق لها أن أصدرت قبل عقدين حكماً مبرماً ضد جدار الفصل العنصري القائم في الضفة الغربية، قضت بموجبه بإزالته وحكمت بتعويضات للمدنيين عن الأضرار اللاحقة بهم، وظل هذا الحكم معطّلاً، إلا أنه شكّل سابقة قضائية غير مسبوقة في تاريخ الكفاح الفلسطيني متعدّد الأشكال، فتح باباً جديداً لم يُطرق من قبل، ويسّر أداة مناسبة لمواصلة الاشتباك بكل السبل المتاحة، ومهّد، في الوقت ذاته، الطريق أمام دولة فلسطين للانضمام إلى عدد واسع من الوكالات المتخصّصة والمنظمّات الدولية، بما في ذلك "اليونسكو"، ناهيك عن انتزاع عضوية الدولة المراقبة في الأمم المتحدة، وكان ذلك كله أمراً حسناً، تمت مراكمته والبناء عليه، جنباً إلى جنب مع سائر أشكال الكفاح الوطني.
ويبقى السؤال المطروح في عنوان هذه المطالعة، هل يمكن الرهان على هذا البديل المتاح؟ ثم هل تفعلها محكمة العدل الدولية، وتنجح في ما فشلت فيه المرجعيات الدولية المنوط بها حفظ الأمن والسلم الدوليين؟ وهل تتمكّن هذه الهيئة القضائية المكوّنة من 15 عضواً من إصدار حكم احترازي مستعجل، يقضي بإلزام دولة الاحتلال المجنونة باتخاذ قرار وقف حرب الإبادة على غزّة، أو قل تقديم السلّم المناسب للنزول عن شجرة أهدافها المستحيلة في القطاع الباسل؟ ثم ماذا إذا رفض المحتلّون حكم المحكمة الدولية؟
أحسب أن التعويل على حكم المحكمة هذا يستحقّ المراهنة الموضوعية، إذ في حالة الرفض المحتمل يُرفع الأمر إلى مجلس الأمن، حيث لا يحقّ للولايات المتحدة، في هذه الحالة النادرة، استخدام حقّ النقض، كعادتها كلما تعلق الأمر بابنها المدلّل، فهل ستواصل إدارة جو بايدن الظهور بمظهر المدافع الأوحد عن دولة مُدانة بجريمة إبادة، عشية سنة انتخاباتٍ رئاسيةٍ وتشريعيةٍ حاسمة؟

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي