هل انتهى الصراع في دير الزور؟

10 سبتمبر 2023
+ الخط -

توقّفت الاشتباكات التي اندلعت، أخيرا، بين مليشيات قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) وأبناء بعض العشائر في مناطق من محافظتي دير الزور والحسكة، وامتدّت إلى قرى وبلدات في محافظة الرقّة ومحيط مدينة منبج، وانتهت معها الجعجعات والتحذيرات من إمكانية نشوب صراع عربي كردي في منطقة الجزيرة السورية، إذ لا تمثل "قسد" الأكراد السوريين، كونها ليست أكثر من سلطة أمر واقع، تفرض نفسها بالقوة، وبإسناد من قوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، على مناطق تسيطر عليها شرقي نهر الفرات، وذلك على الرغم من ادّعاءات قادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، التي تعدّ "قسد" إحدى مخرجاته، فيما يعدّ هو أحد مخرجات حزب العمال الكردستاني التركي.

في المقابل، جاءت دعوات بعض شيوخ العشائر إلى مقاتلة مليشيات "قسد" وطردها من المنطقة، وفق منطق الفزعة ودافع العصبية العشائرية، القائمين على التضامن بين أقرباء الدم، وليس لها أي حامل سياسي، بالرغم من وجود دوافع وعوامل أخرى عديدة لسكان تلك المناطق، كالمطالب المعيشية والحياتية أو المطالبة بمشاركة أوسع لهم في إدارة شؤون مناطقهم والاستفادة من خيراتها وعوائد مواردها، كما أنه لم يجر العمل على بلورة قيادة محلية جامعة، بل تمّ الرجوع إلى الماضي القبلي، وإحياء ما يسمّى "ديوان الحرب"، الذي بدا كأنه أقرب إلى مضافة لاستعراض المظاهر، وليس لقيادة العمليات العسكرية وإدارة المعارك.

لا يمثل زعماء (بالأحرى شيوخ) العشائر الذين دعوا إلى "فزعة عشائرية" عابرة لحدود مناطق السيطرة المختلفة، جميع عشائر منطقة الجزيرة السورية ومحيطها، وأغلبهم مختلف على مشيخته من أبناء العشيرة نفسها، فضلاً عن أن معظم مشيخات العشائر متعدّدة الولاءات، ولا تبحث سوى عن الوجاهة والمكانة، حتى إن اقتضى ذلك تبديل الرايات والأعلام، كما أنها لا تتوانى عن انتهاز الفرص والمناسبات، بهدف الحفاظ على مصالحها الضيقة.

تظهر سلوكيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بشكلٍ جلي، أنه لا يحترم أي ممارسة ديمقراطية حتى ضمن صفوفه

لا يعني انتهاء الاشتباكات نهاية الصراع بين مكوّنات "قسد" وأطرافها، سواء في دير الزور، أم في سواها من مناطق الجزيرة السورية، بالنظر إلى عدم معالجة مسبّبات نشوب الصراع وممكناته، خصوصا في ظل استمرار اختلاف العلاقات، واختلال التوازنات، بين مكوّنات "قسد" التي تسيطر عليها مليشيات "وحدات حماية الشعب"، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سورية، فيما لا تحوز باقي المكونات العسكرية سوى على نفوذ محدود، وعلى نصيبٍ صغير من اقتصاد الحرب، القائم على تهريب النفط والمواد الغذائية والمخدّرات، فيما تستحوذ مخرجات حزب الاتحاد الديمقراطي على عوائد البترول والغاز وسائر ثروات المنطقة، التي تدرّ عليها مليارات الدولارات سنوياً، وتعمَد إلى حرمان أبناء المنطقة من ثروات مناطقهم، واتّباع سياسات الإقصاء والتضييق الاقتصادي بغية تطويع أهالي المنطقة وممثليهم.

يضاف إلى ما سبق أن مناطق الجزيرة السورية، ومعها البادية، تمتاز بكثرة القوى واللاعبين المحليين والدوليين، فهناك مليشيات "قسد"، والفرقة الرابعة ومليشيات "الدفاع الوطني" التابعة لنظام الأسد، ومليشيات إيرانية متعدّدة القوميات، وقوات التحالف الدولي ضد "داعش" بقيادة الولايات المتحدة، فضلاً عن خلايا "داعش" التي يتم استدعاؤها تحت الطلب، ووجود عسكري روسي وإيراني، ودخول مقاتلين من هيئة تحرير الشام، وعناصر من "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا، وسواهم. كما أن حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية، وبدفع أميركي، عمل على تشكيل مليشيات محلية وضمّها إلى جانب وحدات حماية الشعب عند تشكيل "قسد"، فانضم إليها ما يقارب 16 مجلساً عسكرياً في مختلف مناطق سيطرتها، ومنها مجلس دير الزور العسكري ومجلس منبج العسكري اللذان تشكّلا عام 2016، وكان لهما دور هام في المعارك ضد تنظيم داعش، لكن عدد هذه المجالس انخفض بعد فقدان "قسد" ومعها "الإدارة الذاتية" مناطق في عفرين وتل أبيض ورأس العين، لصالح تركيا وفصائل الجيش الوطني. غير أن تحول الخلافات بين مكوّنات "قسد" إلى صراع مسلح يشي أيضاً بانكشاف (وتعرية) مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، الذي تشكّل في الأصل على يد مجموعة من مقاتلي حزب العمّال الكردستاني (التركي)، وقام على جملة من الشعارات الستالينية والأوجلانية (نسبة إلى عبدالله أوجلان)، ذات البعد القومي الشوفيني المتطرّف، البعيد كل البعد عن الديمقراطية وتمثيلاتها وقيمها. والمضحك أن هذا الحزب الستاليني حتى النخاع يُدخل كلمة ديمقراطية عنوة في كل مخرجاته، العسكرية والمدنية والسياسية، في محاولة لتصوير مشروعه القومي ديمقراطيا، ويسعى إلى ضمان حقوق المكوّنات كافة، وذلك من أجل تسويقه لقادة الغرب، الذين يعون جيداً طبيعته، لكنهم لم يجدوا سوى مليشياته، كي يعتمدوا عليها في حربهم على "داعش".

انتهاء المعارك لا يغيّر شيئاً من وجود "قسد" ضمن نطاق محكوم عليه بالزوال والاختفاء

عملياً، تظهر سلوكيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بشكلٍ جلي، أنه لا يحترم أي ممارسة ديمقراطية حتى ضمن صفوفه، لأن نهجه قائم على الاستئثار والاستبعاد والتفرّد والتسلط في كل شيء. وهناك مكوّنات عديدة في مناطق سيطرته لا تعترف به ممثلا للأكراد، مثل تنسيقيات شباب الكرد، وحزب المستقبل، والمجلس الوطني الكردي، الذي يضم أحزاباً كردية عديدة وعريقة، ولها تمثيل بين أكراد سورية، فضلاً عن عدم وجود شعبية له في أغلب المناطق التي يديرها، تحت مسمّى "الإدارة الذاتية". وقد عانى الأمرّين جميع سكان المناطق التي يسيطر عليها في سورية، أكراداً وعرباً، جرّاء تصرّفاته وممارساته، وتصرّفات سائر مخرجاته، بالنظر إلى أنها تتبع الأسلوب نفسه الذي يتّبعه نظام الأسد، سواء من جهة التعاطي الأمني والعسكري مع سكان المناطق التي تخضع لسيطرتها، أو من جهة التعامل مع مكوّناتها الأهلية والعرقية، حيث إن "قسد" تعاملت مع أبناء العشائر على أنهم إرهابيون، وحاولت تصوير مناطقهم أنها إمارات لـ"داعش"، واخترعت في بداية الصراع مع مجلس دير الزور العسكري مسرحية، مفبركة وهزيلة، حول هروب بعض عناصر "داعش من سجونها"، وأنها تلاحقهم.

أخيراً، يمكن القول إن انتهاء المعارك لا يغيّر شيئاً من وجود "قسد" ضمن نطاق محكوم عليه بالزوال والاختفاء، إذ إن جغرافية منطقة وجودها مُحاصرة من قوى هدفها القضاء على مشروع الإدارة الذاتية، وكل مخرجات حزب الاتحاد الديمقراطي، وهي قوى لا تخفي ذلك، وتشير، بشكل واضح، إلى تضارب مشروع هذا الحزب في سورية مع مشاريعها الجيوسياسية.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".