هل العرب عاجزون حقًا؟
كما يحدث دائمًا، يمعن الكيان الصهيوني في إيذاء وإهانة الشعب الفلسطيني، الواقع تحت الاحتلال، وتحت الحصار العربي أيضًا، فيتصنّع النظام الرسمي العربي العمى والصمم والخرس، حتى يبدأ الفلسطينيون في التصدّي لغطرسة المحتل، وإيلامه كما يتألمون، فتنطلق صواريخ المقاومة لردع الهمجية، فيصرخ الكيان الصهيوني.
هنا فقط، يتنبه النظام الرسمي العربي، ويستيقظ ويهرع إلى إنقاذ الصهيوني من ورطته، فتنطلق مبادرات التهدئة، من القاهرة بالأساس، بأسرع مما تنطلق سيارات الإسعاف الصهيونية عقب القصف الصاروخي.
وكأن العرب باتوا لا يتذكرون الشعب الفلسطيني الشقيق إلا عندما تتوجع إسرائيل، ودون ذلك كل شيء يمضي كما تريد تل أبيب، فيبقى القوم منشغلين باستكمال تصوير مسلسلاتهم، في ميدان التحرير.
كان كل شيء يمضي، كما تشاء إسرائيل: اعتداءات يومية على سكان حي الشيخ جرّاح، والعرب نيام.. اعتداءات على المصلين واقتحامات همجية للمسجد الأقصى وإشعال الحرائق فيه، والعرب يواصلون الاشتباك حول مسلسلات رمضان.
باختصار، حكام العرب نيام، فإذا ما توجّع الصهاينة انتبهوا، ودبّ فيهم النشاط والهمّة، وخرجوا إلى سوق التهدئة، يبيعون مبادراتٍ ويعرضون وساطات، ويناضلون من أجل إنهاء حالة توازن الرعب التي فرضتها قدرات المقاومة الصاروخية، وساقت بها قطعان المستعمرين إلى الملاجئ، وأعلنتها: الدم بالدم والجروح قصاص.
ربما لا يكون ذلك حبًا وانصياعًا للمشيئة الصهيونية، وتربحًا منها، بقدر ما هو حالة رعبٍ من انتشار روح المقاومة والثورة، تلازم النظام العربي المرتبط عضويًا بالاحتلال، فيكون سعي هذا النظام إلى التهدئة دفاعًا عن بقائه واستقراره أيضًا، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض المساومات، والاستثمار في الموقف لانتزاع مكاسب وأرباح إضافية من المحتل. تلمس ذلك التململ الرسمي العربي من المقاومة، إذا كان مصدرها غزة بالتحديد، ذلك أنها وكما قال عنها شاعر فلسطين محمود درويش "لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والاصدقاء على السواء".
قد يهرعون سراعًا، وقد يتباطأون تلكؤًا وابتزازًا، لكن الحقيقة المؤكدة في الحالين أن هذا النظام الرسمي لا يرى نفسه سوى وسيط بين الشقيق الفلسطيني والعدو الصهيوني، وإن كان انحيازه للأخير، أو بالأحرى اعتقاده بأن مصلحته مع الأخير، أوضح، قولًا وفعلًا، كما يتجلّى في إحكام الحصار على غزة واستعمال الرصاص الحي ضد صياديها، من قوات حرس الحدود المصرية.
السؤال: إذا كانت الأنظمة العربية قادرةً على التدخل السريع على هذا النحو لتحقيق تفاهمات عاجلة، فلماذا لا يستخدمون هذه القدرات في الأوقات العادية لمساعدة الشقيق الفلسطيني المعتدى عليه؟ الحاصل أنهم طوال الوقت يحاولون ترويج أنه لا قبل لأحد بالاحتلال الصهيوني، وأنه لا يردعه شيء، بل ويسخرون من كل محاولة لمقاومته، ويهرولون إليه أفواجًا وأفرادًا، يخطبون وده ويطلبون صداقته، ويعاقبون من يعتبره عدوًا.
لا تصدّق أن الأنظمة العربية عاجزة عن فعل شيء من أجل القدس .. كل ما في الأمر أنها تدّعي العجز لكي تتسول به رضا البيت الأبيض ودعم الكيان الصهيوني، وتوهم شعوبها بأن معاداة العدو انتحار، وأن رفض التطبيع معه والرضوخ له جنون وتهور، ثم تخترع لهم عدوًا بديلًا، في الداخل، تكرس لمحاربته كل الطاقات، وتنفق بسخاء على تجييش الشعب ضد الشعب، فتنقسم الأوطان طولًا وعرضًا، وتنشطر المجتمعات وتتشظى، لكي يكون المناخ مناسبًا حتى يخرج بنيامين نتنياهو معلنًا بمنتهى الثقة والوقاحة : "أقول بوضوح لأفضل أصدقائنا أورشليم الكاملة هي عاصمة "إسرائيل" الأبدية وسنواصل البناء فيها، في كل أحيائها، مثلما يبني كل شعب في عاصمته ويعمرها. هذا حق طبيعي في دولة ذات سيادة ولن نتخلى عنه وسنواصل ممارسته".
هل كان من الممكن أن يدلي هذا الإرهابي الوقح بمثل هذا التصريح لو كان يعلم أن في عواصم العرب الكبرى من تهمه مصلحة الشعب الفلسطيني؟ الحقيقة أن الكيان الصهيوني على يقين بأن النظام الرسمي العربي بات أهم وأغلى ما في قدراته العسكرية وأدواته السياسية، على نحو يفوق أهمية طائراته المقاتلة وبوارجه الحربية، ومن ثم يمضي مطمئنًا في مشروع التهام فلسطين كلها، والتمدّد خارجها ليكون الرجل الكبير على الشرق الأوسط كله.
فقط، صواريخ المقاومة، وإبداع الشعب الأعزل في الصمود والمواجهة والتحدّي، واليقين بانتصار الحق، هي ما توقظه من أوهامه وأحلامه، وتجعله يوجه أدواته في العواصم العربية للتحرك سعيًا إلى التهدئة.
ونكرر: ليست مشكلة الفلسطينيين أن ضميرا عالميا فاسدا، وأن نذالة وعجزاً من أشقاء وجيران لأصحاب الأرض والحق، وحماية من قراصنة كبار، وعوامل أخرى، تجمعت وتواطأت وتحايلت على الحقيقة، وتلاعبت بجوهر الحكاية، وأذعنت لما يردّده المعتدون من أساطير وأكاذيب.