هل أميركا ضحيّة "لوبيات" سيئة أم هي إمبريالية أصلاً؟
قُدِّر لي، قبل أيام قليلة، أن أكون مشاركاً في لقاء خاص في واشنطن مع مسؤول عربي رفيع سابق، محسوب على المعسكر الديمقراطي. ضمَّ اللقاء ناشطين سياسيين عرباً أميركيين، وغيرهم، وكان هناك نقاش مستفيض في مستقبل التغيير والديمقراطية في العالم العربي. وكما هو متوقّع، فقد تطرّق النقاش إلى حقيقة الموقف الأميركي من طموحات الشعوب العربية، وما إذا كانت الولايات المتحدة تؤيد فعلاً، أو حتى ستقبل، أن يكون هناك انتقال ديمقراطي في المنطقة، سواء بشكل سلس أو عبر ثورات شعبية. تعدّدت الإجابات والتوجهات هنا، خصوصاً أن جلَّ المشاركين في النقاش نشطاء سياسيون فاعلون أميركياً، وهم ملتزمون بشدّة قضايا الشعوب التي ينتمون إليها والدول التي جاؤوا منها. وبعيداً عن تفاصيل الأخذ والرد، كان لافتاً لوم إحدى المشاركات جماعات ضغط (لوبيات) تمثل دولاً عربية تنتمي إلى معسكر الثورات المضادّة، محمّلة إياها تردّد واشنطن في دعم الديمقراطية في المنطقة العربية، أو حتى التواطؤ عليها. أثارت هذه النقطة انتباهي، ذلك أنها ذكّرتني بنقاش أكاديمي أميركي أوسع، في ما إذا الولايات المتحدة، بنيوياً وجوهرياً، دولة إمبريالية، أو أنها تطوّرت، سواء بشكل منهجي أو عرضي، إلى أن تصبح إمبريالية في محطّات زمانية ومكانية معينة.
تحاول السطور التالية أن تقدم إضاءة أكثر تفصيلاً لما طرحته في سياق تعليقي على إشارة السيدة تلك، وأهمية الموضوع أنه يعيننا على أن نحدّد ما إذا كانت الولايات المتحدة مجرّد ضحية لنفوذ لوبيات ضارّة، وبالتالي هي بريئة من تداعيات كثير من سياساتها العالمية البشعة، أو أنها مصمّمة أصلاً كي تكون دولة إمبريالية.
بداية، لنقدّم تعريفاً موجزاً ومختصراً للإمبريالية من دون الاستغراق في نشأة المصطلح وحيثياته ومعانيه المتعدّدة، اتساعاً وضيقاً. الإمبريالية، في العموم، سعي دولة تملك أسباب القوة، اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، لبسط هيمنتها على دولة أو دول أو شعوب ضعيفة، سواء عبر الاستحواذ على الأراضي مباشرة أو عبر إخضاعها لنظام سيطرة صارم. ويكون ذلك، إما عبر القوة الصلبة، كاستخدام القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية، وإما عبر القوة الناعمة، كالغزو الثقافي وتقديم مساعدات إنسانيةٍ لأهدافٍ غير بريئة. ولأن بعضهم يربط الإمبريالية بالمفهوم الإمبراطوري، كما كانت بريطانيا وفرنسا في الحقبة الاستعمارية، مثلاً، فإن هذا دفع طرفاً آخر إلى أن ينفي هذه الصفة عن الولايات المتحدة، على أساس أنها لا تمثل حالة إمبراطورية تقليدية، حيث لا توجد لها مستعمرات، بالمفهوم الكلاسيكي العسكري، خارج نطاقها الجغرافي، أو هكذا يقولون.
لم تتوقف الجهود الأميركية لفرض سيطرتها وهيمنتها على العالم، خصوصاً مع تراجع القوة الإمبريالية الأوروبية بعد الحربين العالمية الأولى والثانية
في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (2001) في نيويورك وواشنطن، برز إلى السطح، مجدّداً، الجدل بشأن الإمبريالية الأميركية. رأى بعضهم، حينها، أن إطلاق إدارة الرئيس جورج بوش الابن "الحرب العالمية على الإرهاب" أظهر مدى القوة العسكرية الأميركية الطاغية والعارمة التي لا قبل لأحد في العالم بها. مباشرة غزت الولايات المتحدة أفغانستان وأسقطت حكم حركة طالبان فيها، ثمَّ اتبعت ذلك بغزو العراق وإسقاط نظام الرئيس الراحل، صدّام حسين. لم تأبه واشنطن وهي تقوم بذلك للقوانين والمنظمات الدولية، ولم تنتظر إذناً من مجلس الأمن، خصوصاً وهي تعلن الحرب على العراق الذي كان صنّاع القرار الأميركيون يعلمون يقيناً أنه غير متورّط في الهجمات، وأعلن بوش بكل صلف متحدّياً العالم كله: "إما أن تكونوا معنا أو تكونوا ضدنا". لم تكن عسكرة السياسة الخارجية الأميركية وتنمّرها على العالم بأسره أسوأ ما فعلته إدارة بوش، بل إنها مارست دور المافيا والعصابات الإجرامية وهي تختطف الناس من شوارع المدن في العالم، التي لم تسلم حتى أوروبا منها، ولم تكن تفرّق بين أبرياء ومشتبه فيهم وهي تقصف عشوائياً مناطق سكانية مدنية. أما حديث التعذيب والسجون السوداء، فقد دفعت الأفعال الأميركية أنظمة متوحشة إلى أن تداري وجهها خجلاً.
خرج بعضهم حينها زاعمين أن رد الفعل الأميركي بعد هجمات 2001 أبان عن ميول إمبراطورية وإمبريالية عرضية. لكن هل فعلاً كان هذا هو الحال؟ حتى نعرف الإجابة، يتطلب هذا منا العودة إلى مرحلة نشوء الولايات المتحدة وتكوّنها وتأسيسها. في هذا السياق، ثمَّة من يرى أن أميركا، بنيوياً وجوهرياً، من حيث التعريف، دولة إمبريالية. يستند هذا الرأي إلى أن الاتحاد الأميركي قام على أشلاء عشرات الملايين من السكان الأصليين الذين أُبيدوا واحتُلَّت أراضيهم، وأُحِلَّ مستوطنون بيض مكانهم. ولم يكن الأفارقة السود الذين جيء بهم عبيداً إلى "العالم الجديد" أحسن حالاً، إذ هلك ملايين منهم كذلك، وعانوا قرابة قرنين ونصف قرن تحت نظام عبودية متوحش. وفي خضم ذلك، سيطرت الولايات المتحدة على أجزاء واسعة من المكسيك المحاذية، كولايات كاليفورنيا وتكساس ونيومكسيكو وأريزونا. ومع انتهاء الحرب الأهلية الأميركية، عام 1865، بدأت مرحلة إعادة الإعمار وترتب عن ذلك نمو اقتصاد البلاد بنحو كبير. ونتيجة ذلك، بدأت الولايات المتحدة تنظر إلى أسواق خارجية لبيع منتجاتها، وهو ما تطلب إنشاء قوة بحرية حديثة، منحتها تالياً حضوراً وقوة عالمية أكبر.
حتى وإن لم تكن الولايات المتحدة إمبريالية بالمفهوم التقليدي للمصطلح الذي يتطلب بعداً إمبراطورياً، فإنها إمبراطورية بحكم الأمر الواقع
هنا، حسب متخصصين، وجدت الإمبريالية الأميركية نفسها مدفوعةً بالداروينية الاجتماعية، التي تعطي صلاحية البقاء للأفضل، ووُظِّفَت هذه الداروينية على المستوى الدولي لتبرير العنصرية والإمبريالية وفرض الهيمنة الأميركية خارج حدودها. وإعمالاً لـ"مبدأ مونرو" الصادر عام 1823، الذي أعلن الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، فضاءً خاضعاً للهيمنة والنفوذ الأميركي فقط، لا للإمبريالية الأوروبية، تحركت الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية إلى التوسع ما بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وبدأت الحرب الأميركية – الإسبانية، التي انتهت بتصفية الوجود الإسباني، تقريباً، في أميركا اللاتينية، فيما توسّعت سيطرة الولايات المتحدة لتشمل أراضي الفيليبين، وبورتوريكو، وغوام، وساموا، وهاواي، وغيرها. ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف الجهود الأميركية لفرض سيطرتها وهيمنتها على العالم، خصوصاً مع تراجع القوة الإمبريالية الأوروبية بعد الحربين العالمية الأولى والثانية. بل نجحت الولايات المتحدة في بسط نفوذها عبر القارّة الأوروبية نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك في دول إمبريالية عتيدة، كألمانيا وفرنسا وبريطانيا. حدث الأمر نفسه في شمال شرق آسيا، كما في اليابان. وخلال حقبة الحرب الباردة (1947-1991) مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، لم تتردّد الولايات المتحدة في التدخل العسكري المباشر، كما في كوريا وفيتنام، أو عبر عمليات عسكرية خاصة، كما في بنما وهاييتي، أو عبر عمليات استخباراتية لإسقاط حكومات تعتبرها غير حليفة، كما في الانقلاب على حكومة محمد مصدق في إيران، عام 1953، وصولاً إلى "الحرب العالمية على الإرهاب"، والاجتياح العسكري لأفغانستان والعراق واحتلالهما. طبعاً، بين ذلك محطّات كثيرة أخرى، كما في الصومال، وحرب الخليج الأولى، ويوغوسلافيا، إلخ.
أبعد من ذلك، سعت الولايات المتحدة لفرض نفوذها وهيمنتها على دول كثيرة عبر وسائل عدة، منها، مثلاً، دعم حكام محليين موالين لها. أو من خلال التأثير الاقتصادي فيها. وثمَّة من يذهب إلى حدِّ اعتبار "هيمنة الدولار" وربط قيمته بسندات الخزينة الأميركية لا الذهب، إحدى وسائل فرض الإمبريالية الأميركية. وكذلك في ما يتعلق بمنظمات القوة الناعمة الأميركية، كالوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، أو حتى صندوق النقد الدولي، إلى غير ذلك. يسحبون الأمر ذاته على الاختراق الثقافي للعالم عبر صناعة السينما في هوليوود.
تغيير السياسات الأميركية الظالمة لا يتمّ فقط عبر انتخاب مرشّحين جيدين، بل بالعمل كذلك على إعادة تصميم الهوية الجينية للولايات المتحدة
بعيداً عن الاستطراد هنا، حتى وإن لم تكن الولايات المتحدة إمبريالية بالمفهوم التقليدي للمصطلح الذي يتطلب بعداً إمبراطورياً، فإنها إمبراطورية بحكم الأمر الواقع، حتى وإن عبّر بعضهم عن ذلك بالهيمنة، أخذاً بالاعتبار القوة الأميركية العسكرية والاقتصادية والثقافية الساحقة، التي لا تتردد الولايات المتحدة في توظيفها خدمة لمصالحها.
عودة إلى ما بدأ به هذا المقال عن قصة اللقاء والنقاش الذي جرى قبل أيام في واشنطن. هل يعني ما سبق عن الإمبريالية الأميركية كجزء أصيل من الهوية الجينية الرسمية للدولة أنه لا توجد جماعات ضغط تسيء أو تزيد الطين بلة؟ وهل يعني ذلك استحالة التغيير أميركياً؟ الجواب لا في الحالتين. يقتضي الجانب الآخر من المشهد منا الاعتراف بأن أميركا بلد ضخم وفيه تقاليد عريقة، وفيه قوى وتيارات متعارضة، وهناك حالة تدافع سياسي حقيقية تصل إلى حد التنافس على إعادة صياغة المشروع الأميركي برمّته. ما أراد هذا المقال الإشارة إليه، مسألتان: الأولى، أن على من يسعى للتغيير، إدراك حقيقة البنية المؤسسية للولايات المتحدة، إذ إن سبب تأثير جماعات ضغط كاللوبي الصهيوني أو اللوبيات المحسوبة على معسكر الثورات المضادّة عربياً لا يعود إلى نجاحاتهم فقط، بل إلى حقيقة أنهم متوافقون مع ماهية الكينونة الإمبريالية المؤسسية الأميركية. وكان الرئيس الأسبق، باراك أوباما، قد أشار إلى ذلك عندما شبّه الحكومة الأميركية بـ"الباخرة الضخمة" التي يصعب تغيير وجهتها بسهولة، وخصوصاً في ظل مقاومة البيروقراطية الضخمة وممانعتها لذلك. الأمر الثاني، أن تغيير السياسات الأميركية الظالمة لا يتمّ فقط عبر انتخاب مرشّحين جيدين، بل بالعمل كذلك على إعادة تصميم الهوية الجينية للولايات المتحدة، وهذا ما كان أوباما يلمّح إليه. هل يمكن ذلك؟ لن أقول بالاستحالة، ولكنه أمر دونه خرط القتاد، ويتطلب أولاً، وعياً كاملاً بحجم التحدي، وبناء كتلة تاريخية أميركية واسعة وعميقة، وتحوّلات في موازين القوى الدولية تفرض على صناع القرار الأميركي إعادة تعريف مكانة الولايات المتحدة ومصالحها ضمن حدود الممكن.