هل أمسكت "الديمقراطيات الجديدة" بوصلة أوروبا؟

15 اغسطس 2022
+ الخط -

في لقاء مع المفكر القومي المصري، عصمت سيف الدولة، في عام 1994 منحني الرجل عدة ساعات من وقته في نقاش شديد الثراء. وقد كانت سنوات ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي اختبارًا حقيقيًّا لقدرة منتجي الأفكار على استشراف مستقبل الغرب، ومستقبل العالم. كان سيف الدولة يرى أن القرن الحادي والعشرين (أو على الأقل قسم كبير منه) سيكون "قرن الهويات"، وكان يرى أن واقعتين مهمتين ربما تحدّدان "بوصلة" القرن المقبل: انفصال دول البلطيق: إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، عن بعضها بعضًا. و"الطلاق المخملي" الذي كتب نهاية تشيكوسلوفاكيا. وفي الحالتين، كان لـ "الهوية" القول الفصل، قبل الأيديولوجيا والعرقية والدين، وغيرها مما كان خلال القرن العشرين يشكّل نواة صلبة لدول وطنية عديدة.
وخلال مسار بناء المشروع الأوروبي، كشفت تباينات الرؤى والمصالح عن وجهتي نظر بشأن "الممكن" و"المأمول"، أوروبيًّا وعالميًّا. ويمكننا تلخيص الفرق الرئيس بين الفريقين في درجة رسوخ الديمقراطية بوصفها نظامًا سياسيًّا في كل منهما، حيث إن بعض "الديمقراطيات الجديدة" (وكانت بولندا في البداية نموذجها الأكثر تطرّفًا)، تتصرّف من قلب قاموس مفردات "الحرب الباردة" وعالم أفكارها. وبالتالي، كانت أكثر "اندفاعًا" في إظهار العداء للإمبراطورية السوفييتية الغاربة، وأكثر تشبعًا بمشاعر الرغبة في "التطهّر من آثام الماضي". وعندما أظهرت المناقشات بشأن "مسودة الدستور الأوروبي" اختلافًا كبيرًا بين "الديمقراطيات الجديدة" ونظيرتها الأقدم (بخاصة فرنسا)، في شأن هوية أوروبا ودور الدين فيها، كان واضحًا أن هذه الدول أقرب إلى التصورات والرؤى الأميركية وأكثر حماسًا لأجندتها السياسية. وفي الحالة البولندية، تحوّلت بعد تخلّصها من "القيود"، إلى حليف رئيس لأميركا، محدثة بذلك صدعًا في البناء الأوروبي كان موضع انتقاد فرنسي متكرر، ومن هنا جاءت مشاركتها في الغزو الأميركي للعراق في 2003. ومع استمرار التباين صكّت فرنسا مصطلح: "الديمقراطيات الجديدة"، وكان ذا دلالة تحقيرية!

خلال سنوات تمدّد حلف شمال الأطلسي شرقًا، كانت بولندا شديدة الحماس لنشر وحدات الدرع في أراضيها

وقد كانت مشاركة بولندا عسكريًّا في الحرب مؤشرًا على رغبة في الانخراط في مشكلات السياسة الدولية، كما قوى أوروبية أخرى أكبر وأكثر تأثيرًا في الصراعات الدولية منذ عقود، وكأن بولندا تريد أن تثبت لأميركا أنها مستعدة لرد الجميل، وأنها لن تدور في "الفلك الأوروبي" وفقًا للمفهوم الفرنسي. وخلال سنوات تمدّد حلف شمال الأطلسي شرقًا، وفي سياق لعبة ثلاثية الأطراف: أميركية/ أوروبية/ روسية، بسبب "الدرع الصاروخية" للحلف، كانت بولندا شديدة الحماس لنشر وحدات الدرع في أراضيها، بينما دول أوروبية أخرى عديدة كانت تتحفّظ بسبب حسابات رد الفعل الروسي. واليوم في 2022، اعتبر رئيس الحزب الحاكم في بولندا أن حادث تحطّم الطائرة الذي أودى بحياة شقيقه التوأم، رئيس البلاد آنذاك ليف كاتشينسكي، في روسيا عام 2010 كان "هجومًا" مدبرًا، محذّرًا الدول الأوروبية من أن الدور قد يأتي عليها. وكان كاتشينسكي يتحدث في ذكرى تحطم طائرة عسكرية بولندية في روسيا، ما أودى بحياة شقيقه ليف، وكان عائدًا من حفل لتخليد ذكرى ضحايا "مجزرة كاتين". وفي هذه المجزرة، قتل 22 ألف ضابط بولندي كانوا أسرى لدى الجيش الأحمر بعد غزو الاتحاد السوفييتي المناطق البولندية الشرقية بموجب اتفاقية ألمانية سوفييتية لتقاسم المصالح والنفوذ بينهما.

تقفز دول البلطيق قفزة كبيرة إلى الأمام باتخاذ قرارات تقلّص علاقاتها الاقتصادية مع الصين

وعلى خطى بولندا تتحرّك دول البلطيق الثلاث: إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، حيث انسحبت إستونيا ولاتفيا من إطار تعاون اقتصادي صيني أوروبي، بعد إجراء مماثل اتخذته ليتوانيا في مايو/ أيار الماضي. وترافق القرار مع انتقادات أوروبية للصين بسبب تايوان، وساءت علاقات الصين وليتوانيا بعد افتتاح سفارة تايوانية في العام الماضي. والسمات التي تتسم بها مواقف دول البلطيق وبولندا مؤشر على تقارب بين مواقفها السياسية والحسابات الأنغلوسكسونية (الأميركية والبريطانية) التي تدفع، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، إلى التصعيد مع روسيا واعتماد الخيار العسكري والعقوبات الواسعة، واليوم تقفز دول البلطيق قفزة كبيرة إلى الأمام باتخاذ قرارات تقلّص علاقاتها الاقتصادية مع الصين، وهي بذلك أقرب إلى موقف إدارة جو بايدن التي ترفض ما تعتبره دول أوروبية أخرى: "واقعية سياسية" تبرّر أن يقبل الأوكرانيون التنازل عن جزء من بلادهم لإرضاء روسيا، وتجنيب أوروبا عواقب الاستغناء عن النفط والغاز الروسيين... فهل أصبحت "الديمقراطيات الجديدة" بوصلة أوروبا؟