هل أفسد المال القيم الرياضية؟

06 سبتمبر 2023
+ الخط -

حتى سنين قليلة، كان الرياضيون يتنافسون للحصول على الألقاب والميداليات وتحطيم الأرقام القياسية، وكانت الرياضة متعة وفرجة وتسلية للروح وشحناً للمعنويات، لكنها اليوم تحوّلت إلى أرقام فلكية في سوق شراء اللاعبين، وأخرى في سوق بيع حقوق البثّ والترويج التجاري للمباريات واللاعبين والأندية. وبعيدا عن القيم الرياضية التي جسّدتها الألعاب الأولمبية في الميثولوجيا الإغريقية، لم تعد مظاهر التنافس المعنوي اليوم في الرياضة هي التي تشكّل الجوهر، ولم يعد الرياضيون يطاردون الألقاب والمآثر بقدر ما يسعون وراء الشيكات الكبيرة والعقود الضخمة بأرقام فلكية، وتحوّلت النتيجة المربحة إلى الغاية التي تبرّر كل الوسائل. فالرياضة، وخصوصًا كرة القدم، اتخذت منعطفًا خطيرًا منذ تحوّلت إلى بورصة للأرقام الفلكية في سوق الانتقالات السنوية لكبار اللاعبين، حتى باتت أخبار الانتقالات هي التي تهيمن على أخبار اللعبة، وتضع قيمها في آخر اهتمامات جمهورها. ولا شك في أن إضفاء الطابع الاحترافي على الرياضة قد مكّنها من النمو. ولكن مع مرور الوقت وضع جانبا جزءٌ كبيرٌ من قيمها. وما حدث في سوق انتقالات لاعبي كرة القدم هذا الصيف مثال واضح على هيمنة النزعة المادّية على اللعبة الأكثر شعبية في العالم، وعلى تسليع اللاعبين الذين أصبحوا هم الآخرون تحت سيطرة الفكر المادّي، بحيث أصبح الالتزام بالأخلاق الرياضية ضمن آخر اهتماماتهم الشخصية، وإلا ما الذي يدفع كبار اللاعبين إلى التسابق للتعاقد مع أندية بلد لا تُحترم فيه حقوق الإنسان، إذا لم تكن الغاية هي العقود الضخمة التي تغري اللاعبين الكبار؟!

كما أن الأندية الرياضية التي هي في الأصل مدارس لصقل الموهبة بما فيها تلك المعنوية، أصبحت أكثر فأكثر أعمالًا تجارية تعتمد على فكرة الربحية، والتي أصبحت أقلّ ارتباطًا بالقيم التي تدّعي أنها تجسّدها. أما نجوم كرة القدم الذين كانوا يمثلون القدوة في تجسيد هذه القيم فقد تحوّلوا اليوم إلى موظّفين يتقاضون أعلى الأجور، فالرياضة لم تعد مصدرا للإلهام والتفوق الرمزي، بل طريقا إلى الثروة والمجد الشخصي الذي تقدّر قيمته بعائداته الاقتصادية على الشخص، لأن الأمر لا يتعلق بالمنفعة الجماعية، فالسؤال هنا لا يُطرح كما بالنسبة لمهن عديدة مربحة. وحتى على المستوى النفسي، بات المتلقّي أكثر تقبّلا للأرقام الفلكية عندما يتعلق الأمر برواتب لاعبي كرة القدم، ولم تعد هذه تمثّل المصدر الرئيسي للجدل حول قيم كرة القدم. وهذا التطبيع مع سماع أخبار الصفقات الرياضية غير الواقعية هو الذي يفسّر لماذا يكون الرأي العام الرياضي، في نهاية المطاف، أقلّ صدمة برواتب الرياضيين مقارنة برواتب كبار رجال الأعمال أو السياسيين.

أقلية صغيرة اليوم من لاعبي كرة القدم هي التي تستحوذ على جزء كبير من تدفّقات الاهتمام والأموال

وحتى رياضة كرة القدم التي هي بطبيعتها جماعية، تحوّلت إلى فضاء مقدّس لصناعة نجوم من طراز فريد، بحيث نجد أن أقلية صغيرة اليوم من لاعبي كرة القدم هي التي تستحوذ على جزء كبير من تدفقات الاهتمام والأموال التي تدور في هذه الرياضة الجماعية. ولا يمثل هؤلاء سوى الجزء الصغير البارز في عالم كرة القدم. أما الواقع فهو أقلّ ورديةً، ويكشف عن أوضاع صعبة للاعبين من الدرجة الثانية أو اللاعبين غير المحظوظين ولاعبي أندية منسية.

مسألة الأهمية الممنوحة لكبار نجوم كرة القدم، والتي قد تبدو تافهة في نظر بعض الجمهور، تؤدّي إلى نظرة مختلفة تمامًا لهذه اللعبة الشعبية التي تحوّلت إلى الساحرة القادرة على إنتاج القيمة والتصنيع المعاصر لـ "الرجال العظماء"! ولفهم هذه الصناعة لا بد من فكّ رموز ديناميكيات التثمين، التي يقودها رؤساء الأندية وسماسرة اللاعبين ووسائل الإعلام والمتفرّجون، وهذه كلها عوامل ساهمت في صناعة البطل الذي لم يعُد يحقّق ذاته إلا من خلال التحصيل المادي الكبير مع عدم التركيز بشكل واضح على الرمزية المعنوية، لأنه يعرف أن هذه ستختفي بمجرّد ظهور بطل آخر منافس، فالبطل الرياضي اليوم هو نقيض البطل الأولمبي القديم الذي كان يسعى إلى الخلود الأبدي من خلال تجاهل التكريم المادّي المباشر والتركيز المطلق على التكريم الإلهي، وفقا لمعتقدات الإغريق القديمة.

كما أن القيم الرياضية التي ظهرت مع الألعاب الأولمبية القديمة في عهد الإغريق، والتي كانت بمثابة محفل للاحتفاء بوحدة شعوب الإغريق التي كانت متحاربة في ما بينها، وتكريس لانتهاء الحروب في ما بينها، ولسيادة السلم والسلام، وفرصة لتكريم الآلهة وشكرها، تحوّلت في نظام العولمة حديثا إلى قيم مادية صرفة تقاس بالسعر والربح والصفقات والأرباح. ومن السذاجة الشديدة من لا يزال يعتقد أن البطل عندما يرفع ذراعيه إلى السماء، يفعل ذلك فقط لأنه قدّم للتو أداءً رائعًا. اليوم، النصر يتناغم مع المال. بعيدًا عن القيم الأولمبية في الميثولوجيا الإغريقية.

تحتاج الرياضة المال لكي توجد. ولكن على المستوى المهني، روح المنافسة هي التي تنحرف عندما تكون المبالغ المستثمرة غير محدودة. وإذا انفجرت الفقّاعة المالية ذات يوم، سوف تكون الكارثة أعظم. أما سؤال القيم والأخلاق في الرياضة فقد يطرحه بعضهم بصيغة أخرى: لماذا نتوقّع المزيد من الوازع الأخلاقي من الرياضيين أكثر مما هو مطلوب من السياسيين؟

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).