هل أصبحت ''الكتلة التاريخية'' مستحيلة؟
يعود مفهوم ''الكتلة التاريخية'' إلى المفكر الإيطالي الماركسي، أنطونيو غرامشي، الذي وظفه من أجل تخطّي حالة الانسداد العام التي كانت تشهدها إيطاليا ما بين الحربين العالميتين، وذلك بالدعوة إلى بناء تحالف اجتماعي واسع يضم قوى مختلفة، تلتقي مصالحها في التغيير الاجتماعي والسياسي. ويصطدم توظيف هذا المفهوم، في سياقات اجتماعية واقتصادية وثقافية مغايرة، بصعوباتٍ نظرية ومنهجية، خصوصاً في السياق العربي الذي يتسم بتركيبة طبقية واجتماعية غير واضحة.
دخل هذا المفهوم إلى الفكر السياسي العربي من خلال دراسة محمد عابد الجابري ''الكتلة التاريخية... بأيّ معنى؟''، نشرها في مجلة المستقبل العربي (1982)، في سياق الاحتراب الفكري والأيديولوجي، الذي كان سائداً ولا يزال، بين التيارات القومية واليسارية والعلمانية من جهة، والتيار الإسلامي من جهة أخرى. واعتبر الجابري أنّ الكتلة التاريخية ''تجمّع فئاتٍ عريضةً من المجتمع حول أهداف واضحة، تتعلق أولاً بالتحرّر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وثانياً بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة، يحكمها التوزيع العادل للثروة (...)''. ولاقى المفهوم بعض الانتشار، خصوصاً داخل تنظيمات اليساريْن، القومي والماركسي. ومع اندلاع ثورات الربيع العربي (2011) والمخاضات التي رافقتها، رأى كثيرون في الكتلة التاريخية حلاً لتجاوز الانقسام الفكري والأيديولوجي للقوى الاجتماعية التي قادت هذه الثورات، والتوافقِ على برنامج سياسي واجتماعي واضح، يحقّق أهداف هذه الثورات في الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وبالتالي، يسحب البساط في هدوء من تحت أقدام قوى الثورة المضادّة المدعومة من الغرب.
وفي وقت كان يُنتظر أن تنجح القوى المدنية والثورية واليسارية والإسلامية في بناء ''كتلة اجتماعية'' تستند إلى الطبقة الوسطى الحضرية، تسمح لها ببناء ''هيمنةٍ مضادّة'' (بتعبير غرامشي) لمواجهة هيمنة الثورة المضادّة، جاء إجهاض مسلسل التحوّل الديمقراطي في مصر (2013) ليكشف العوائق البنيوية التي تحول دون بناء هذه الكتلة في ضوء عجز هذه القوى عن الوصول إلى أرضية توافقية مشتركة، بسبب افتقادها ثقافةً سياسيةً تنبني على الاختلاف وقبول الرأي الآخر والاستعداد للتفاوض وإدارة الانقسامات، في أفق الوصول إلى تسوياتٍ مجتمعيةٍ تضع مصلحة الأوطان فوق كل اعتبار. ويكاد السيناريو ذاته يتكرّر في تونس؛ إذ لم يكن الانقلاب الذي قاده قيس سعيّد، السنة الماضية، إلا نتيجة حتمية لفشل النخب التونسية في إدارة انقساماتها التي كانت أقوى، على ما يبدو، من الآمال العريضة التي واكبت انطلاق ثورة الياسمين، واستمرّت مع مسلسل التحوّل الديمقراطي الذي وضع الانقلابُ نهاية له في 25 يوليو/ تموز 2021.
الإخفاق في بناء تحالف واسع ينعطف بالثورات العربية صوب تحول ديمقراطي متوافَق عليه يعود، بالأساس، إلى شيوع الوثوقية الفكرية والسياسية التي لا تقتصر على القوى السياسية، بل تمتدّ، أيضاً، إلى تركيبة المجتمعات العربية. وفي الوسع القول إنّ منصّات التواصل أضحت مختبراً لقياس حدّة الانقسام الفكري والأيديولوجي الذي يَعبر مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية بشكل دراماتيكي، يُنذر بما هو أخطر في المستقبل. وكم كان مؤسفاً، بل محبطاً، أن تنقسم مجتمعاتنا بشأن جواز الترحُّم من عدمه على الإعلامية الراحلة شيرين أبو عاقلة التي قضت غدراً على يد قوات الاحتلال الصهيوني.
تستثمر الأنظمة الحاكمة هذا الانقسام وتُغذّيه، بتلكُّؤها عن القيام بإصلاحاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ عميقة، ولا سيما في ما يتعلق بتحديث الأنظمة التربوية والسياسات الثقافية، وإشاعة حرية الرأي والتفكير والتعبير، وتنمية الحسّ النقدي بما يسمح باشتباكٍ أكثر جرأةً وعمقاً مع التراث.
ليست الكتلة التاريخية المنشودة مجرّد تحالف سياسي بين تنظيمات حزبية مختلفة، بقدر ما هي انعكاس لتحقق الوعي بضرورة تجاوز هذا الانقسام، من دون تجاهله، بالتوازي مع التوافق على مشروع مجتمعي يشرك كلّ القوى الاجتماعية والاقتصادية ذات المشارب الفكرية والأيديولوجية المتباينة.