هل أسقط المسلمون شريعة الحوار؟
تتحفّظ أوساط إسلامية على مصطلح حوار الأديان، وتستبدله بحوار أتباع الأديان. ويقوم هذا التحفظ باعتبار أن الدين كلياتٌ إيمانية، وقواعد أحكامٍ شرعية قطعية، منزّلة من الله الخالق عبر الوحي، وهو العالِمُ بأحوال البشر، فلا مجال لحوارها. وهذا التحفّظ قد يَسقطُ في مواجهة النص القرآني ذاته، إذ إن منظومة الحوار القرآني المتعدّد أُعلنت في الذكر الحكيم، بما فيه الحوار القُدسي مع الشيطان، كرمز للشر الكوني، من دون أن تكون له سلطة على عقل الإنسان. إذ إن الله أعطى الخليقة قدرة تدافع، عبر مكوّنات الفطرة تقوم على مراجعة العقل، وقدرتُه على نفي الباطل بعد تحقّق التصور الكوني في تأمله، كما أنه يستشرف الشر ويُدرك سوءه عبر المركز الأخلاقي في ذاته. وتأتي مهمة الأنبياء مُكمّلة أو محفّزة، لمّا غاب عن الفرد، واحتاجت الفطرة للتذكير به، ولا يقع حساب الله على الإنسان، قبل تحقيق شروط البلاغ، وإلا أمهل حتى يوم البعث، كما هو حال أهل الفترة الذين لم يرد عليهم نبأ النبوات. فهنا عرضُ الخالق صور حوار مع إبليس، وعرضُ حواراتٍ متعدّدة بين المشركين أو المخالفين للرسل، في عدة نماذج وأدوار تاريخية وجدها العالم الحديث شاهدةً في حفرياته، وشملت صور الحوار قصصاً عديدة لمعارضة غير المسلمين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتفصيلاً في جدلياتهم، فالخلاف على المصطلح لا يلغي حقيقة هذا المعنى، على الرغم من إيمان المسلمين بقطعيات الرسالة.
ولكننا نُبصر هنا حجم هذه القيمة، وتاريخيّتها الممتدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فهي تتعاقبُ في فلسفة الرسالة عبر النصوص القطعية من القرآن وشواهدها القوية من السُنّة، ولكن الكارثة أن المسلمين بذاتهم لم يُحسنوا فهم هذه القيمة الفطرية الأخلاقية، ولم يُفعّلوها في حياتهم، بل إنها نُقضت بتحالف التعصّب الديني والتوظيف السياسي قديماً، لمنع آراء التفكّر والتجديد، التي يبعثها الإسلام لعمران الأرض، منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى نهاية التاريخ.
الجرم الجنائي في محاربة الفكر كان عملاً إرهابياً ممنهجاً في تاريخ المسلمين، يستثمره المستبد السياسي لحشد عصبيةٍ حوله
وآثار تغييب شريعة الحوار في تاريخ المسلمين تقدّم صوراً مأساوية أضعفت حياتهم الفكرية، وأسقطتهم سياسياً، وأنهكت وحدتهم الأممية، وكانت تتحوّل في مواقف وأزمنة متعدّدة إلى معصية جماعية، يقودها علماء دين وسيف المستبد، ثم تُبنى على تلك الحوادث فتاوى فقهٍ منحازة، استهدفت علماء من المدرسة السنية الكبرى، أو المدارس التي خالفت قواعد الكليّات الأصلية لمصادر البلاغ، أو الأقليات المتعدّدة، كانت في حقيقتها جرائم جنائية ومعرفية ضد الإنسان، بحجة صيانة الدين، وهو الدين الذي تضمّن في قرآنه مساحة واسعة لأفق المخالفين والرد عليهم فيه.
ولم يكن هذا الأمر فقط منحصراً في مسارات الخلاف العقائدي المركزي، بل في الحروب النفسية والاجتماعية ضد المبدعين في تاريخ الأمة فكرياً وفقهياً، تحت عصبياتٍ جماعيةٍ أو نرجسياتٍ شخصيةٍ لتصارع الأقران قديماً وحديثاً، فتجد ذلك الخصم المذهبي أو المتنافس مع قرينه العلمي يكيد له في بلاط السلطة، وقد يتسبب في قطع رزقه أو نفيه أو سجنه أو قتله. وهذا الجرم الجنائي في محاربة الفكر كان عملاً إرهابياً ممنهجاً في تاريخ المسلمين، يستثمره المستبد السياسي لحشد عصبيةٍ حوله، تبرّر قمعه وبقاء حكمه وحكم ذريته، حتى تسقط الأمة أو يهلك ذالك الشعب، ويبقى هو وذريته الحاكمة، وهي فكرة متوارثة من العهد القديم حتى اليوم.
ضرورة عرض الأفكار على طاولة النقد التي يُعتمد في إعلانها العام على قواعد محدّدة، تضبط بث هذه الأفكار في المنابر المركزية
وهنا سؤال اعتراضي مشروع، هل هذا يعني ترك كل فكرة لتسري على الناس من دون مراجعة ونقد، وخصوصا في نسبتها للرسالة الإسلامية التي تحكمها قطعياتٌ يقينيةٌ، حين تنقضها لن يتبقى مما يمكن أن يُعتبر ديناً ولا رسالة سماوية فارقة، تحرّر عمرانية التشريع، وجواب الروح للعقل المسلم. وبالطبع، لا يلغي هذا الأمر ضرورة عرض الأفكار على طاولة النقد التي يُعتمد في إعلانها العام على قواعد محدّدة، تضبط بث هذه الأفكار في المنابر المركزية، حتى لا تتسبب في فوضى فكرية عامة، وتُحدث نزاعاً مجتمعياً ومصادمات أهلية، واضطرابا لدى الأجيال، وليس تحفيزاً لعقول الجيل الجديد لفهم معرفي مختلف، يتجاوز الجهل الديني الذي قمع آلة المعرفة الفكرية في تاريخ المسلمين، على الرغم من وجود قاعدة بعثٍ مميزة في نصوص رسالتهم، وفي تجربتهم الأخلاقية، حين تفعّل حركتهم مع التاريخ.
ونقول إن هذا الأمر تحكمه قواعد المعرفة، والتفصيل بين البث العام والحوارات العلمية الخاصة، وقبل ذلك تحقيق مناط الخلاف، وأين هو الزعم في نقضه الرسالة الإسلامية. وحتى في دائرة المختلف مع الرسالة، فلا يُعمم الرفض لفكرة الحوار العام، إلا بحسب ما يترتب عليه من تقديرات أمينة ومنصفة.
إدخال المصالح السياسية للحكومات على طاولة الحوارات الفكرية المتعدّدة، لا علاقة له بجواز هذا الأمر من عدمه
نعم، قد لا يُبث في منابر عمومية مركزية، على الرغم من أن إعلام اليوم يجتاح كل مجتمع وناحية وقرية، لكن يبقى هناك حق للمجتمع العام، لتنظيم منصّات الحوار في المشكلات الكبرى، أو التي تثير حساسياتٍ بالغة، ويتّضح جذور انحرافها السلبية، بميزان تقييم عادل. أما شبكة المواضيع المتعدّدة لموقف الإسلام من الحريات، ومن الحياة المدنية ومن الأفكار المعاصرة، فالأزمة قد تكون في غياب المؤهَل الجدلي، وليس في أن هذا الأمر مشروعٌ طرحه من عدمه، فمتى ما غاب المؤهَل سقط التوازن الفكري، وهذا شأنٌ مجتمعي لا يحكمه القرار السياسي، فحركة التلاقح الفكري في المجتمع قد تصحح هذا التوازن عبر تدافعه الأخلاقي لا الانتقامي.
هنا نلاحظ أن إدخال المصالح السياسية للحكومات على طاولة الحوارات الفكرية المتعدّدة، لا علاقة له بجواز هذا الأمر من عدمه، ولكن ما يجري أن الأنظمة الحاكمة للمستبد العربي الحديث تنتج مواسم نفعية خاصة، تسمح فيها بمنصّات حوار منقوصة، وتحجب الكثير، وقد تعود لتعتقل من حاور حتى في منصّاتها، بحجج دينية تستخدم فيها بعض وعّاظها، فيما كان هدف النظام القمع الأمني السياسي وتكميم الأفواه لأجله.