هستيريا فلسطينيين موهومين
عدّ صاحب السطور أدناه إلى المائة، قبل أن يبسُط فيها تعقيبَه على بيانيْن نُسبا إلى اللجنتيْن، التنفيذية لمنظمّة التحرير الفلسطينية والمركزية لحركة فتح، وعلى ما استرسَلَ فيه هواة الكلام الفالت، عندما خاضوا، كما كاتبُ ذينك البيانيْن (أظنّه شخصاً واحداً؟)، بشأن مبادرة نخبةٍ فلسطينيةٍ واسعةٍ في الوطن والشتات نحو إعادة بناء المنظمّة على أسسٍ ديمقراطية، والتهيئة لمؤتمر وطني يتبنّى دعوة إلى إقامة قيادة موحّدة فاعلة. وهذه النخبة لمن لا يعرِف، ومن لا يريد أن يعرِف، متنوّعة المشاغل والتجارب والمناشط والجغرافيّات، وكثيرون فيها من أصحاب الخبرة في العمل الوطني، ومن أهل الكفاح والنضال المعلوميْن، ومن ناس الكفاءة في غير حقلٍ واختصاص، وممن أبدعوا في غير شأن، وممن لا يزعمون تمثيلهم أي أحد.
إنما الحاجة إلى العدّ إلى المائة للتخفّف من انفعالاتٍ تدافعَت بفعل فائض الركاكات البائسة، ومقادير الهستيريا التي ضجّت بالسفاهات، في كثيرٍ مما عوين في البيانيْن، وفي ما أشاعه عديدون ممن دوّنوا وثرثروا وشتموا واتّهموا وتطاوَسوا. وبعضٌ من هؤلاء أوصلتهم أورامٌ فيهم إلى أن يفترضوا قدرةً لديهم على حماية الشرعية الفلسطينية، وصيانة منظمّة التحرير من متآمرين مرتبطين بدولٍ ومًمَوَّلين في الإقليم. ولكثرة العجائب في الذي ساقه هؤلاء، وهم يكتبون أوهامهم هذه، أنك تلقَى بينهم أساتذةً جامعيين وناساً مشتغلين بالثقافة والمعرفة، من أولى بديهيّات عملهم الأمانة في النُّقول وتقصّي المعلومات المؤكّدة، لكنهم تنازلوا عن هذا، فواحدٌ منهم، مثالاً، (كان وزيراً في السلطة الوطنية قبل سنوات)، يُستغرَب منه أنه يُخبرنا بأنه ليس مع قطر ولا مع الإمارات، ويستفيض في كلامٍ عن المبادرة بفرضيّاتٍ وخراريف من عنديّاته، وكان الظنّ أن "أكاديميّته" أستاذاً للعلوم السياسية تُبعدُه عن مزاولة نمائم جاراتٍ أمام مصاطب بيوتِهن عن جاراتٍ أُخريات، لكنه استطابَ أن يكون كما ذوي المناظير الحوْلاء، فيروْن النخب الفلسطينية أشتاتاً موزّعة الولاءات على هذه الدولة وتلك.
...، لا يحتاج حالُ منظمّة التحرير إلى تآمرٍ من أحدٍ في الإقليم (وغير الإقليم)، فهي جهازٌ ميّتٌ، استقال منذ سنواتٍ من وظيفته ممثّلاً شرعيّاً للشعب الفلسطيني الذي يشعُر باليُتم بسبب موتِها هذا. عدا عن أنه لم يعُد لائقاً، ولا حسناً لصورة هذا الشعب، أن يكون عنوانُه رئيس المنظمّة محمود عبّاس، فالرجل يقعُد في قمّةٍ عربيةٍ في البحرين فلا يجد ما يقولُه سوى التأليب ضد "حماس"، فيما لا يجرُؤ أيٌّ من موظفّيه على مخاطبة ضابط صغير في المخابرات المصرية لوقّف ابتزاز شركةٍ (يُقال إنها سياديّة؟) كلّ غزّي يخرُج من القطاع بخمسة آلاف دولار (أو أكثر). والمرجوّ ممّن ضجّوا بتلك الهستيريا ضد المبادرة المطروحة أن يُبحلقوا حواليْهم جيداً، ويخيّطوا في غير مسلّة الشرعية، فشرعية الإنجاز والحضور والفاعلية والتأثير التي يحوزُها وازنون كثيرون من أهل المبادرة أثقلُ كثيراً من الشرعية الشائخة الخفيفة، و"نداء" أصحاب المبادرة يلحّ على منظمّة التحرير، وعلى وجوب بنائها واستعادتها، وعلى أن تتحرّر من مُختطفيها الذين منحوا أنفسهم شرعياتٍ مُتوهّمة.
معيبٌ في أصحاب الحملة المشحونة بالفزع ضد مثقفين وناشطين وسياسيين ومناضلين فلسطينين، جعلت الأقدار بعضَهم يقيمون في لبنان وقطر والولايات المتحدة وفلسطين وفرنسا ومصر والكويت و... إلخ، أن يفترضوا انعدام قدرة الفلسطينيين على أن تجتمع نخبةٌ منهم وتتحاور في شأنٍ وطنيٍّ، باستقلاليّةٍ وحريةٍ وفي مساحاتٍ عريضةٍ للخلاف والاختلاف، في رام الله والكويت والدوحة ولندن (وغيرها لاحقا)، فلا يرون المشاركين في اجتماعاتٍ مُعلنةٍ، وأسماؤهم مُشهرة، غير تابعين ومأمورين ومموَّلين، لاستبدال فلانٍ بفلان في منظمّة التحرير وقيادة الشعب الفلسطيني. معيبٌ جدّاً في الذي كتب بياني اللجنتين، التنفيذية للمنظمّة والمركزية لـ"فتح"، أن يكون معجمُه فقيراً، فلا يعرف غير لغة الاتهامات التي كان الظنّ أن السياسيين الفلسطينيين غادروها منذ زمن، وأن جرائم الإبادة في غزّة تستدعي استشعاراً حقيقياً بالكيْل الذي فاض، وبأن الكلّ الفلسطيني تأخّر كثيراً في أن تصير له قيادةٌ موحَّدةٌ توحِّدُه، تمثّله ولا تمثل نفسها. معيبٌ في الذين يمارسون في رام الله ترهيباً ضد موقّعي النداء، ويشيعون رداءاتٍ في كلامهم عديم المسؤوليّة، فيُخرِجون واحدَنا عن طوْره، ليحتاجَ إلى العدّ إلى الألف قبل أن يقول ما يقول، ويحاول إخفاء انفعالاته، وهو ما لم يفلح به صاحبُ السطور أعلاه.