هروبٌ صينيّ الهوى

08 سبتمبر 2023

(خوان ميرو)

+ الخط -

عزمتُ على الهروب طوال النصف الأول من حياتي، ولم أنجح في أيّ محاولةٍ خطّطتُ لها، لأن قلبي جَبُن في مطاوعتي على إطلاق ساقيّ للريح. مثلما كان يفعل في طفولتي: يعيثُ إخوتي في البيت فوضى وضجيجاً، ويقتصر دوري على مساهمةٍ رمزية، كمن دخلَ حفلة التّخريب بلا نفس، فقط لكي لا يُتهم بالجُبن. وعندما تأتي أمّي لتُفرّق "الجوقة"، كان المشاغبون من إخوتي يهربون، فيما أتجمّد مكاني، أفكّر في الهروب، إنّما لا أحرّك قدمي، لأنّني لم أفعل شيئاً، وليس لأنّ المكان حيث أقف أعجبني.

عندما تصل أمّي إلى مسرح الأحداث لا تجد غيري، وأُلام على ذنوبهم جميعاً. فأبكي لأنني لم أفعل شيئاً، ولأنه ظلم. هذه المقولة، للسّخرية، ستكون جملتي الأثيرة لاحقاً: لم أفعل شيئاً، أقولها لنفسي وهي تُسرع نحو الشيخوخة، فيما لا أزال مكاني على عتبة الطفولة.

ظلّت علاقتي بالهروب نوستالجية، فيها شجونٌ استرجعها حالما أسمع الكلمة. بينها تلك المرّة، حين شاهدت فيلم "Ballon" الألماني، وهو يحكي قصة فرار أسرةٍ من ألمانيا الشرقية إلى جارتها الغربيّة، على متن منطادٍ خيّطته. قصة فريدة وشائقة. وكذلك كانت حكاية المنطاد الصّيني الذي تابعه العالم منذ فترة قريبة، والذي اتهمت أميركا، خلال أزمته، الصّين بأنها أطلقته، رغم أنه أداة بدائية، بغرض التجسّس.

عانت الأسرة من عيون الجيران التي كانت تندسّ بلا حياء في شؤونها، وأسوأهم الجار الموظّف في المخابرات. اضطرّت الزوجة وصديقتها إلى اقتناء القماش من محلات مختلفة، بالصّعود والنزول عبر البلدة، في جوّ خانقٍ بالرّقابة الجماعية، فكل مواطن مخبر، اختيارا أم اضطرارا. لذا عندما تُعرف خطط الأسرة للهرب، يُعاقب الجار موظّف المخابرات، على قلّة لماحته، وتقصيره في حراسة دار السلطان الاشتراكي الأشقر.

لا مكان آمناً في البلاد لأرواح حرّة، يقول الفيلم، وإن تحقق لها الوصول إلى وجهتها الغربية، فتلك ولادةٌ أخرى لها. الأنظمة الشمولية قاتلة للرّوح، لكن الغرب المتحرّر منها ليس رحيماً، كما يُروج رواة قصص المغامرة والجاسوسية، في الأدب أو السينما أو في الإعلام المضاد. كما حدث مع قصة المنطاد الصّيني الذي قدّم صورة كاريكاتورية لصراع الجاسوسية بين أميركا والصين، التي كان الغرب فيها، هذه المرّة، الضّحية، لا الملجأ الحامي للضحايا، فاستمتع الشامتون بمعاناة "النظام الأميركي" أمام عناد المنطاد.

مهلا، هل يقتصر تعبير "النظام" على الأنظمة الشمولية وغير الديمقراطية؟ مع العلم أننا نقصد به عادة توّجهات (وتصرّفات) حكومةٍ لا تمثل إرادة شعبها حتى لو انتخبها. مع ذلك نقول جميعا، أميركا، ونقول، للإنصاف، الصين وبقية الدول. مع العلم أن المقصود بها سلطات هذه الدول لا شعوبها. إنّها التفسيرات السياسية المتعسّفة ضد المجتمعات والحضارات، فالدولة توجد في نظرها مع تحقق شروطها، الإقليم والشعب والسلطة والسيادة. وبالتالي، تختصر هذه الشروط وجود الناس في عناصر قانونية سياسية. واضعةً العبء على الشعب لاختيار سلطته لتمثّله على أكمل وجه، رغم أن الحقيقة تقول إنّه حتى الحكومات الأكثر تمثيلاً تخذل شعوبها. تخيّل لو صرنا نقول النظام الأميركي والنظام الفرنسي مثلا؟

يذكّرني الهروب بسلسلة "رجل المستحيل"، للكاتب نبيل فاروق الذي ألهب خيال اليانعين بقصصه، حين يعلّق رجل المخابرات المصري، أدهم صبري، في مواقف شديدة الخطر، مع ذلك، رغم توتّر قلوبنا الفتية، كنا نعرف أنه سيهرُب، حتى ولو في العدد التالي. وكم كان الألم شديداً لعدم توفر ذلك العدد الغالي! فمعظمنا كان يشتري الأعداد مستعملةً من على الرّصيف، وبالتالي، لم يكن هناك مجال للقراءة المنّظمة لها. لكن الثقة في براعته تطمئن قلوبنا.

رغم أنّ الهروب كان صفة اللُّعبة، فهو كان يقوم بعملٍ فعّالٍ ضد الموساد، ثم يهرُب من عملائه، هروب الطّائر الذي يكفي أن يرفع جناحيه ليحلّق. لا شك أن نبيل فاروق جعل أدهم يستخدم منطاداً للهروب، ولو مرّة، فهو لم يعدم وسيلةً لذلك، حتى لو كانت حماراً أو إوزّة، المهم أن النجاح حليفه دوماً، كما أمِلت عقولنا اليانعة التي زادتها القصص البطولية سذاجة، بتلقينها فكرة أن الخير ينتصر، وأن البطل يخرُج أو يفرّ فائزاً. لكن هل الهارب منتصر فعلاً؟

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج