هذه الهستيريا الإسرائيلية
مرّة أخرى، تجد إسرائيل نفسها أمام مأزق حقيقي، بعد المواجهات التي شهدها محيط الحرم القدسي بين قواتها والفلسطينيين طيلة الأسابيع الماضية. ومع اتساع رقعة هذا المواجهات، يأخذ هذا المأزق شكلَ هستيريا تجتاح مؤسّساتها السياسية والأمنية والعسكرية، بسبب مركزية القدس والمسجد الأقصى في الصراع، وتشكُّلِ ما يشبه الإجماع بين مختلف القوى السياسية والدينية الإسرائيلية على ضرورة المضي في مخطّط التهويد الذي يستهدف المدينة ومقدّساتها، بما يجدّد ''شرعية'' السردية الصهيونية، خصوصا داخل أوساط اليمين الديني المتطرّف.
تعكس هذه الهستيريا نفاد صبرٍ باديا داخل دوائر القرار في إسرائيل بشأن مراوحة مخطط التهويد مكانه، أمام إصرار الفلسطينيين على التشبث بحقوقهم التاريخية في مدينة القدس. ولعل هذا ما يفسّر الغضب الإسرائيلي من تمسّك الأردن بالوصاية على المسجد الأقصى، لأن ذلك يربك هذا المخطّط الذي يتطلع الصهاينة إلى الانعطاف به صوب أطوارٍ متقدّمة، وبالأخص، بعد قمّة النقب التي جمعت، نهاية مارس/ آذار الفائت، وزراءَ خارجية إسرائيل والولايات المتحدة ومصر والإمارات والبحرين والمغرب. وليس خافيا أن إسرائيل كانت تتطلّع، من خلال هذه القمّة، إلى إقامة تحالفٍ عربي إسرائيلي يتصدّى للتمدّد الإيراني في الإقليم، بما يخدم مصالحها، وفي مقدّمتها الاستفراد بالفلسطينيين، وفرض الأمر الواقع عليهم في القدس وغيرها. وتكشف عملية ''إلعاد''، واقتحامُ جماعات إسرائيلية متطرّفة الحرم القدسي تحت حماية قوات الاحتلال، وتزايد التوتر الأمني في مدن الضفة الغربية هشاشة هذا التحالف، ويعيد الصراع إلى مربع الصفر، في ظل إصرار الفلسطينيين على التشبث بحقوقهم المشروعة، وتأكيدهم أنهم غير معنيين بالاتفاقيات الإبراهيمية، ولا بمخرجات قمة النقب.
تراهن إسرائيل، من خلال هذه الاتفاقيات، على اقتلاع القضية الفلسطينية من عمقيها، العربي والإسلامي، و''شرعنة'' احتلالها فلسطين بمنحه مظلّة عربية لا تخلو من دلالة. لكن استبسال الفلسطينيين في الدفاع عن الحرم القدسي لا يربكها فقط، بل يرفع منسوب الإحباط لديها، فهذه الاتفاقات لم تفرز تداعياتها ''المأمولة'' على الساحة الفلسطينية، بما يُفضي إلى تسليم الفلسطينيين بواقع الاحتلال وتنازلهم عن حقوقهم.
في كل مرّة يتولد شعور عام داخل إسرائيل بأنها قطعت أشواطا بعيدةً على درب تصفية القضية، تُفاجأ بإصرار فلسطيني، قلّ نظيره، على مواجهة مخطّطاتها؛ إصرار لا يقتصر فقط على مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، بل يمتدّ إلى داخل الخط الأخضر في تحدٍ ''للأمن القومي الإسرائيلي''، ولما تبقى من تفاهماتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وبالموازاة مع ذلك، تؤشّر الهيمنة المتزايدة لليمين المتطرّف على مفاصل السياسة الإسرائيلية وانتشارُ شعار ''إسرائيل الكبرى'' بين فئاتٍ واسعةٍ داخل المجتمع الإسرائيلي على انسداد الأفق أمام المشروع الصهيوني في المدى البعيد، وهو ما يشكّل حافزا للفلسطينيين من أجل البحث عن مساراتٍ بديلةٍ للتعاطي مع الصراع في منعرجاته المقبلة.
لقد أشاعت اتفاقات التطبيع التي وقعتها دول عربية مع إسرائيل شعورا عاما بين الفلسطينيين، مفاده بأنه آن الأوان لفكّ الارتباط بين قضيتهم والنظام الرسمي العربي، وأن زمن الاعتماد على هذا النظام قد ولّى، بعد أن أصبحت بيانات الإدانة والتضامن توزَن بميزان المصالح التي تتحرّك ضمنها مقتضياتُ هذه الاتفاقات، غير أن فكّ الارتباط هذا والاعتمادَ على القدرات الذاتية في مواجهة السياسات العنصرية الإسرائيلية يتطلبان بناء مشروع وطني فلسطيني، قادر على مجابهة المتغيرات الإقليمية والدولية وقراءتها بقدر من المسؤولية والعقلانية، بشكلٍ يعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي، سيما بعد أن أصبح تهويد القدس وتغيير الوضع القانوني والتاريخي للمسجد الأقصى هدفا جيوسياسيا للكيان الصهيوني. وذلك يمرّ، بالضرورة، عبر إنهاء الانقسام وتخلي السلطة الوطنية عن انكفائها في رام الله وتحقيق المصالحة الوطنية الكفيلة بالتصدّي لمخطّط التهويد وإفشاله.