هذه الرواية... أو ألمانيا في ناميبيا
تذكّرُنا موقعة جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، اتّهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، بوجوب أن نتثقّفَ جيّداً، نحن العرب، بشأن مظالم شعوبٍ عديدةٍ ونضالاتِها من أجل عدالةٍ لا تتقادم، ولكي لا تغيبَ آلامُها عن مرويّات التاريخ المُنصفة. وجاء رفيعََ القيمة أخلاقياً وإنسانياً، على مستوىً كونيٍّ، في نصرة الغزّيين، أن يُعاجِلَ رئيس ناميبيا، حاجي جينجوب، العالم، فور انضمام ألمانيا إلى إسرائيل في المحكمة، بالتذكير بإبادةٍ جماعيةٍ في بلاده ارتكبتْها ألمانيا، قبل أزيد من مائة عام، "راحَ ضحيَّتها عشراتُ الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروفٍ وحشيّةٍ ولا إنسانيةٍ"، على ما أوضح في تغريدةٍ. وأظنّنا صِرنا مُطالبين بأن نعرف جيّداً عن تلك الجريمة، وأن يبقى في مداركنا أن شعب ناميبيا، بكل فئاته ونُخبه، ناضل (ولا يزال)، حقوقياً وسياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً وثقافياً، من أجل إنصاف 60 ألفاً من قومية هيريرو وعشرة آلاف من قومية ناما قضوا في تلك الإبادة بين العامين 1904 و1908، في ظروف استعبادٍ شنيعة، اقترفتْها ألمانيا القيصرية إبّان استعمارها البلد، ما اضطرّ حكومة برلين، في 2021، وبعد مفاوضاتٍ مُضنيةٍ، إلى أن يُعلن باسمها وزير الخارجية هايكو ماس اعترافاً بارتكاب الإبادة، والتعهّد بتعويضٍ مالي، على هيئة مساعداتٍ تنموية، بقيمة 1.1 مليار يورو، في ثلاثة عقود، فلم يُرض هذا أحفاد المقتولين، وجعلَ الرئيس يقول، في تغريدته، إن ألمانيا "لم تكّفر بعد عن ذنْبها ذاك بشكلٍ كامل".
لا يأخُذنا ملفّ ذلك الألم الأفريقي البعيد فقط إلى تفاصيل عنه استعادَتها الصحافة أخيراً بعد غضبة الرئيس (وزوجته)، وليس أيضا إلى مقالة الأنثروبولوحي الفرنسي ديديه فاسن، نشرَها أخيرا، ويقيم فيها ما اعتُبرت "تشابهاتٍ مُقلقة" بين ذلك الذي وقع في ناميبيا قبل أكثر من قرنٍ والذي يجري حالياً في غزّة، وإنما يأخذُنا أيضاً إلى رواية المولود في جنوب أفريقيا، المقيم في لندن، باسيل لورنس، "على حافّة الصحراء" (بنغوين، لندن، 2021)، وبالعربية (ترجمة حسام موصللي، منشورات الربيع، القاهرة، 2023). باعتبارها مساهمةً من الأدب تقترب من المقتلة الألمانية. تستشعرُ في هذه الرواية إحساساً عالياً بالتعاطف مع الضحايا، غير أنَّك، في الوقت نفسه، تلحظُها منقوصة الحرارة في هذا. وعلى ما في إيقاع النصّ من جاذبيّةٍ، إلا أنه قد يتسرّب إليك أن ثمّة بُعداً سياحيّاً في حضور المذبحة التي اقترفها الألمان في المكان الذي يتحرّك فيه فضاء الرواية، بالنظر إلى مَُقام الراوي، مُخرج الأفلام الوثائقية هنري فان ويك، فيه. وحتى لا يبدو أن ثمّة تزيّداً في هذا الكلام، ومن أجل ألّا يروحَ إلى منحىً اتهامي، يحسُن إيضاح أنَّ مُرسَلاتٍ في الرواية، صدرت عن شخصياتٍ في الرواية، تستفظعُ ما اقترفته ألمانيا، وترفُض الفصل العنصري.
شخصياتُ الرواية نخبةٌ أوروبية مثقّفة (أحدهم ألماني)، تتردّد على جنوب أفريقيا وناميبيا، والراوي السارد سينمائي، يعكف على تصوير شهاداتٍ من سكّان جزيرة القرش التي كانت معسكراً سيئاً للألمان إبّان استعمارهم ناميبيا، وتتبع مدينة لودريتز التي شهدت فظاعات قتلٍ في الأثناء، والشهاداتُ لأحفادٍ سمعوا عن تلك الجرائم، يجمعها المُخرج مصوّرةُ لمكتب صديقٍ له محام يعكف على مقاضاة الحكومة الألمانية. ومع ترميزاتٍ ظاهرةٍ في الرواية تحيل إلى زمن المذبحة، بالإشارة إلى نقوشٍ على صخورٍ انكتبت عليها بعض أسماء الضحايا، إلا أن الرواية لا تبدو منشغلةً بهذه القضية أساساً، إذ تحضُر موضوعاً قد يبدو غير مركزيٍّ، وبعد عشرات الصفحات، فالعلاقات بين المُخرج وشقيقته وزوّارها وأصدقائها، وصلته بصديقه الألماني (مثليّان)، ونقاشاتهم عن الفصل العنصري والإرهاب (بالتزامن مع استهدافٍ إرهابيٍّ في باريس)، هي وقائعُ النص، المهجوسِ بالقلق الذي يقيم عليه الراوي، وهو في حيرته، وهو في اكتشافه أحداث الماضي، الألماني هنا، في المكان الذي يسبّح في بُحيرةٍ فيه، وقد أصبح يحضّر "لمشروع عن مجازر هيريرو" كما يجيبُ عمّ يفعل في المكان، قبل أن يختم حكْيَه في منتهى الرواية عن جماجم وعظام راقدة بهدوء في الوادي، وعن تحديقه في مزق ملابس متناثرةٍ بين الرّفات، و... . وأظنّها قفلةً للرواية بديعةً "هنالك أصابع، منسيةٌ ومتآكلةٌ بفعل الرياح، قد لمَست تلك الأغراض ذات يوم. كانت تلك الفكرة البسيطة كفيلةً بهزيمتي. وهكذا رفعتُ كاميرتي، وبدأتُ الرحلة من جديد".