هذه "الحوارات" المخادعة في مصر

03 يونيو 2022
+ الخط -

يُعبّر المصريون، في لهجتهم الدارجة، عن الرجل المخادع، بأنه "يُحَوِّر"، وأن أقاويله "حوارات"، وهذا أحد أكثر الأوصاف تهذيبا للكاذبين والمخادعين، وهو كذلك متناسب مع اللحظة الراهنة التي دعا فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى "حوار" مع المعارضة المصرية.

دعا النظام إلى حوار، وبعد ذلك بأيام، أصدر حكما بحق أحد محاربي الفساد (المهندس يحيى حسين)، ثم في يوم 29 من الشهر الماضي (مايو/ أيار)، أصدر أحكاما بحق رئيس حزب مصر القوية عبد المنعم أبو الفتوح، وابنه، 15 عاما، وأيضا على نائبه في الحزب محمد القصاص، عشر سنوات، بالإضافة إلى قيادات من جماعة الإخوان المسلمين، أبرزهم القائم بأعمال المرشد العام محمود عزت، فأي حوار يمكن حصوله في ظل المقصلة التي يلوّح بها هذا النظام لأي معارض؟

قد يختلط الخاص مع العام في هذه الأسطر، نظرا إلى قرب الكاتب من أبو الفتوح في السنوات الأربع التي سبقت اعتقاله، فضلا عن صداقة تجاوزت 16 عاما مع نجله أحمد أبو الفتوح، ومع محمد القصاص، لكن هذا التداخل في العلاقات لم يسمح لنا بألا نشير إلى الزلات والخطأ حال وجوده، فالحق أقرب إلينا؛ ومن ثَمَّ لا نتحرّج من الدفاع عن أحبابنا وذوينا، إذ نَقْدُنا معروف بقدر محبتنا ومودتنا.

امتاز عبد المنعم أبو الفتوح بصدقه في مجالسه الخاصة كما العامة، ولا يقدح في هذا الوصف التسريب التافه الذي خرج له في مسلسل "الاختيار" وجرى اجتزاؤه بوضوح، وسيأتي يومٌ مناسب لكشف حقيقة كلامه. القصد أن وضوح أبو الفتوح أحد أبرز صفاته، وكان يكرِّر أن التعامل مع النظم المستبدّة لا يصلح معه إلا الوضوح؛ خصوصا أنهم يتجسّسون على كل شيء.

من يتحدّث عن حوار وطني، لا يعرف من الحوارات سوى لغة القتل

كانت الرسائل الخشنة والناعمة تصل إليه باستمرار قبل اعتقاله، ولكنه لم يكن يأبه لها. وأذكر هنا أنه في أثناء إحدى مرّات سفره داخل مصر، شعر السائق باضطراب في السيارة، ليتبين أن أحد إطارات السيارة جرى تخفيف رباط المسامير التي تمسك به، ليخرج الإطار من مكانه مع السرعات العالية، ويحدث بعد ذلك ما شاء الله لها أن يحدث، ويبدو كأنه حادث طبيعي. وكان هذا في موعد سفره الأسبوعي، في رسالةٍ خشنة إليه، أو ربما في محاولة لإسكات صوته إلى الأبد، وقد أنجاه الله منها بلطفه، وكان لا يتحدّث في مثل تلك الأمور، لأنه لا يحب أن يبدو كمن يحاول خطف الأضواء، أو أن يلقي الاتهامات من دون وجود دليل يشهد عليه غيره.

أما على سلوكه الوطني، فلقاءاته المُذاعة تكفي لبيان الفرق بين الذي يتحدّث بكلام رنّان لا جذر له في نفسه والذي يتحدّث بمعانٍ متأصلة في نفسه. ولعل أبرز ما كان يقوم به في ظل الخلاف الشديد مع النظام الحالي، أنه كان يدعو السفراء الأجانب، في كل لقاء، إلى تعزيز التعاون التجاري مع مصر، وزيادة الأفواج السياحية، وكان يتحدّث بحسِّ الزعيم الوطني الذي يفرّق بين الخلاف مع النظام وحاجة المصريين إلى تعزيز اقتصادهم. وكان هناك من يُراجعه في حديثه هذا باعتبار أن إضعاف النظام اقتصاديا أحد أوجه إنهائه، فيردُّ بأنه لا علاقة لحاجة المصريين بالصراع السياسي، في حين أن محتكري الوطنية وأسودَها ولبوءاتها، لم يمانعوا قطع الكهرباء بالساعات على المصريين، وإيقافهم أياما في محطات البنزين، وإضعاف العملة الوطنية والاقتصاد الوطني، لأجل إزاحة الرئيس الراحل محمد مرسي، فأي الفريقين أحقّ بأوصاف النزاهة الوطنية؟!

نحن نتذكّر أبو الفتوح وهو يدافع عن حريات المصريين، ويدافع عن قرارهم الوطني، ويدعو إلى ائتلاف المصريين لا تنافر تياراتهم، وينادي بالسيادة المصرية على كامل أرضها، ويدافع عن حقوق الفلسطينيين والقدس، ويناهض الاستبداد في كل الربوع، ويخاطب الغرب كمسلم يعتزّ بحضارته، ولا يتصادم مع التجديد في إطار المشترك، بينما سيظل خصمه وجلّاده نقيض ذلك كله من دون أدنى مبالغة.

لن يكون في مصر أي حوار وطني جاد في ظل الحكم الحالي

من يتحدّث عن حوار وطني، لا يعرف من الحوارات سوى لغة القتل إذا كان صريحا في توجهاته. أما حال المراوغة فنسمع الوعود السرابيّة بصوت يشبه الفحيح، ومنطق القتل سابقٌ على توليه الحكم؛ فهو الذي سبق له أن قال لوزير التنمية المحلية الأسبق محمد علي بِشْر، خلال حكم الراحل محمد مرسي "لإنهاء التظاهرات في الدولة فلا حل سوى مذبحة مثل مذبحة القلعة"، يقصد مذبحة المماليك التي قام بها محمد علي، وهو الذي قال أيضا قبل انتزاعه منصب الرئاسة رسميا، إن البلد يحتاج إلى التضحية بجيل أو جيلين لأجل الأجيال اللاحقة، والحقّ أنه يضيع الأجيال الحالية واللاحقة بالقمع والاستبداد والفساد، وإغراق الدولة في دوامة ديونٍ تنهي القدرة على استقلال القرار الوطني عقودا طويلة.

ما يتيقن منه أي متابع للشأن المصري أنه لن يكون في مصر أي حوار وطني جاد في ظل الحكم الحالي، وأي حوار جاد ستكون بوابته معاكسةً للبوابة التي يقف عليها السيسي خازِنا لها، لا حاكما وطنيا رشيدا، وتحرّكات المعارضة التي تستجيب له هي استجابة مضطر أمام من يرفع سيفه على أهل الدار يسعوْن فيها إلى إدراك ما يمكنهم إدراكه، والرجاء فقط ألا يدخلوا إليه، وهم يشتركون في الاستثناءات الأمنية التي يفرضها أشرسُ نظامٍ حَكَمَ شعبَه، فيكفيهم الصمت وقبول إخراج أنصارهم، لكن لا ينبغي عليهم أن يكونوا من حَمَلَة مباخر هذا النظام. والرجاء كذلك ألا يخرجوا منها وهم يقولون إن المصريين أصبحوا أمام نظام يستجيب للمعارضة، ويسمح بالحوار والإفراج عن سجناء الرأي بشكل عام. وانزلاقٌ كهذا إلى رواية النظام وقضائه سيجعل خروج العشرات بمثابة انتهازية ووضاعة، بخلاف أن تجري عملية استنقاذ المظلومين من براثنه من دون تجميل لوجه النظام.

المثنّى - القسم الثقافي
المثنّى - القسم الثقافي
شريف أيمن
كاتب وصحافي مصري
شريف أيمن