هذا الموقف الصيني الحذر من الأزمة الأوكرانية
استيقظ العالم، في الرابع والعشرين من فبراير/ شباط 2022، على وقع أصوات الأسلحة الروسية تضرب الأراضي الأوكرانية، حيث جرى استهداف منطقتي دونيتسك ولوغانسك في منطقة دونباس، وهو مشهد لم يكن بعيداً عن توقعات دول كثيرة، وخصوصاً الصين التي ربما كان قادتها الوحيدين الذين كان لديهم علم مسبق بنوايا روسيا الحقيقية في أوكرانيا، حين التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في بكين في الرابع من فبراير/ شباط، خلال افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية، ومن دون إعطاء الأهمية نفسها للألعاب البارأولمبية المنوي إقامتها بين 4 إلى 13 مارس/ آذار.
ومع كل التفاصيل التي قدمها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للصينيين التي أشعرتهم بالتميز، وصفت الصين الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا بأنها "انتشار للجيش الروسي خارج الحدود"، وأنها تتفهم "المخاوف الأمنية الروسية" التي وصفتها بالمشروعة، وهو وصفٌ يبتعد كثيراً عمّا يحدث على أرض الواقع، كونه يتعارض مع مبادئ منظمة الأمم المتحدة، لكنه يحفظ للصين موقعها الدولي المتنامي، إلا أن السلطات الصينية عادت وتبنّت الوصف الروسي، وذلك في وكالة شينخوا الرسمية الصينية، وهو الوصف الذي أشار إليه الكرملين بأن موافقة مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي على العملية العسكرية جاءت وفقاً لمبادئ القانون الدولي، وهو الخطاب الذي تعارض مع تصريحات صدرت من برلين وباريس. قد لا تكون بكين على علم مسبق بالعملية العسكرية الروسية في دونباس فقط، ولكنها كانت على علم كامل بتفاصيل الاستراتيجية الروسية التي لن تتوقف عند دونباس، وإنما التغلغل في كامل الأراضي الأوكرانية.
غالباً ما يوصَف الموقف الصيني بالمعتدل المائل إلى الحذر، وهو ما عبّرت عنه الدبلوماسية الصينية في مجلس الأمن خلال الاجتماع الطارئ في 24 يناير/ كانون الثاني 2022 على لسان مندوب الدبلوماسية الصينية، زهانغ جون، إذ طالب جميع الأطراف بضرورة التحلي بضبط النفس، وحل الخلاف بالطرق السلمية والابتعاد عن أي عملٍ يمكن أن يؤدي إلى زيادة التوتر. وهذه دعوة إلى حل دبلوماسي أساسه الحوار والاحترام المتبادل والمساواة وتجنب القضايا التي قد تثير مخاوف كل طرف.
سيعزّز النجاح الروسي في أوكرانيا من دعمها مبدأ صين واحدة، إضافة إلى انشغال الولايات المتحدة بالأزمة الأوكرانية عن استراتيجية التوجه شرقاً
ما الذي تريده بكين من موقفها الحذر؟ لا تريد الصين أن تظهر وكأنها تؤيد التدخل العسكري في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه ترفض وصفه بالغزو وتشدد على أن القضية الأوكرانية معقدة خاضعة لتأثيراتٍ مختلفة وقضايا تاريخية ما تزال حاضرة، فالصين الشريك التجاري الأول لأوكرانيا، وليس لديها نية المجازفة بخسارة تلك العلاقات المميزة في حال ساندت علناً الحرب الروسية، إذ تشكّل أوكرانيا محوراً مهماً في مبادرة "طريق واحد حزام واحد" التي أطلقها الرئيس الصيني شي في 2013، حيث يبرز التساؤل بشأن كيفية الحفاظ على ذلك كله في ظل التحالف الوثيق مع الروس الذين يرسلون قواتهم إلى أراضي الدولة الأوكرانية.
قد يكون وراء موقف الصين المعارض أي قرار يصدر من مجلس الأمن ضد روسيا تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، إذ على المستوى السياسي ستعزّز الصين من مكانتها الدولية، وتؤكد للروس صدق مواقفها، وعلى المستوى الاقتصادي، قد تدفع العقوبات الاقتصادية والمالية التي ستفرضها المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة (في ظل علاقات متوترة معهما) روسيا نحو الصين، ما سينعكس إيجاباً عليها على المستوى التجاري، وسيعوّض ما يمكن أن تفقده من مكاسب اقتصادية من علاقتها التي ستفقدها مع أوكرانيا، فتشكّل روسيا بذلك مجالاً اقتصادياً جديداً للصين، وتصبح مُتلقياً لمساعداتها الاقتصادية، الأمر الذي لن يختلف ربما عن سياستها في أفريقيا من حيث استنزاف الخيرات.
تبقى كل من روسيا والولايات المتحدة، من المنظور الاستراتيجي؛ الأولى شريكاً رئيسياً للصين والثانية منافساً حقيقياً لها
ويبقى الحديث على المستوى الاستراتيجي في المدى المنظور، والذي يمثل هاجس الصين الأكثر إلحاحاً، فالصين ستراقب الموقف ونتائجه، وتعمل على قياس الموقف الأوروبي والأميركي من الأزمة الأوكرانية على ما يمكن أن يحدُث في حال قرّرت الصين ضم الجزيرة التايوانية بالقوة، مع الإشارة إلى أنه لا يمكن مقارنة المنطقتين. وسيعزّز النجاح الروسي في أوكرانيا من دعمها مبدأ صين واحدة، إضافة إلى انشغال الولايات المتحدة بالأزمة الأوكرانية عن استراتيجية التوجه شرقاً، وهو ما يفتح جبهة جديدة للولايات المتحدة بعيداً عن آسيا مسرحها أوروبا. هناك فائدة أخرى ربما تتمكّن الصين من تحقيقها، على الرغم من أنها لم تتوضح بعد، وهي أن غزو أوكرانيا سيكلف روسيا موارد كثيرة، ويمكن أن يكون سبباً في استنزاف طويل الأمد، وهو ما يشكل ميزة كبيرة للصين على المستوى السياسي، حيث ستبقى القوة الأكثر منافسة للولايات المتحدة، وبالتالي المشاركة في صنع القرارات العالمية.
أكدت الصين موقفها الحذر من خلال دعوة رعاياها إلى اتخاذ كل إجراءات الحيطة والحذر في ظل الأوضاع الخطيرة التي تعيشها المنطقة. الموقف الانتهازي للدبلوماسية الصينية لن يتوقف على فرضية "راقب لترى"؛ فالصين لن تعارض روسيا، ولن تؤيدها في مجلس الأمن، بل ستمتنع عن التصويت، ولن تدعمها عسكرياً لأن أوكرانيا لا تتشارك معها جغرافياً، ولن تلعب دور الوسيط في الأزمة فتبدو بذلك غير معارضة للغرب علناً. وتبقى كل من روسيا والولايات المتحدة، من المنظور الاستراتيجي؛ الأولى شريكاً رئيسياً للصين والثانية منافساً حقيقياً لها.
لا تريد الصين أن تظهر وكأنها تؤيد التدخل العسكري في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه ترفض وصفه بالغزو
تنقسم المواقف في الصين تجاه الأحداث الدولية إلى مؤيدين ومعارضين للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فالمؤيدون يطالبون بضرورة اعتماد سياسة خارجية داعمة لروسيا، بينما يعتقد المعارضون أن مثل هذه السياسة يمكن أن تسيء للعلاقات مع الولايات المتحدة عوضاً من حماية تلك العلاقات وتطويرها. والوصف المثالي للموقف الصيني من التدخل الروسي في أوكرانيا هو "موقف الصمت الاستراتيجي" المتردّد والغامض، فالتعارض كبير وفاضح بين ما تنادي به من مبادئ ودعمها روسيا في أوكرانيا. فهل ستكون أزمة أوكرانيا اختباراً للمصداقية: مصداقية الأوروبي – الأميركي لأوكرانيا، ومصداقية الدعم الصيني لروسيا؟ فهل ستتمكن الصين، في حال نهاية الأزمة، من تسجيل نقاط جديدة ذات قيمة عالية على سلم ارتقائها إلى مستوى القوة العالمية؟
الأزمة الأوكرانية معضلة للدبلوماسية الصينية التي تجد نفسها في موضعٍ غير مريح، حيث عليها الاختيار بين شريكها الروسي، وهي لا تريد أن تظهر وكأنها على خلاف معه، وصورتها دولة مسؤولة عالمياً ترفع منذ حوالي ستة عقود شعار احترام استقلال الدول وسيادتها، لكنها تؤيد، ولو بشكل خفي وحذر، دولة متهمة من أغلب الدول بأنها تقوم بغزو واحتلال دولة أخرى ذات سيادة.