09 نوفمبر 2024
هذا الفيلم.. الإسرائيلي
نشرت صحيفة هآرتس، في يوليو/ تموز الماضي (2017) تقريرا شديد الأهمية، عنوانه "لماذا دفنت صور وأفلام فلسطينية لا تحصى في الأرشيف الإسرائيلي"، تَرَكَّز على جهد مخرجةٍ وباحثةٍ إسرائيليةٍ في التاريخ البصري، اسمها رونا سيلع، بمناسبة إنجازها فيلمها الوثائقي بالإنكليزية، "المنهوب والمخفي.. الأرشيف الفلسطيني في إسرائيل". التفت الزميل أمجد ناصر، في مقالٍ رهيفٍ في "العربي الجديد"، سمّاه "مغارة علي بابا الفلسطينية" إلى القضية التي انشغل بها التقرير، وما صنعته سيلع بشأن النهب المهول الذي ارتكبته إسرائيل لممتلكاتٍ فيلميةٍ ووثائقيةٍ وفوتوغرافيةٍ فلسطينيةٍ غزيرةٍ منذ النكبة في 1948، مرورا بسرقة مواد وفيرة من مركز الأبحاث الفلسطيني إبّان اجتياح بيروت صيف 1982. ثم نشرنا للكاتب سمير الزبن مقالا حاذقا "عندما تسرق إسرائيل التاريخ البصري الفلسطيني"، ثم ساهم في الإضاءة على القضية هذه صاحب هذه الكلمات، في مقالته "عندما تذكّر هآرتس بأرشيفٍ فلسطيني". وفيما قرأ ثلاثتنا تقرير الصحيفة المترجم، فإن لا أحد منّا شاهد الفيلم، لعدم توفره طبعا، والذي بدا لنا عظيم القيمة، بحسب ما بسطته "هآرتس"، وما نقلته من رونا سيلع، وما نشرته عنها.
ليست مناسبة هذه الاستعادة أن حديثا ضافيا جرى أخيرا عن مصادر المعرفة بنكبة فلسطين الأولى في 1948، بمناسبة ذكراها السبعين، كما في مؤتمرٍ في هذا الخصوص، نظّمه، في الدوحة الشهر الجاري، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وإنما المناسبة أن فيلم سيلع وفّره أخيرا منتجوه على الإنترنت، مصحوبا بترجمتين بالعربية والعبرية، أياما فقط. وبعد تأكيدٍ على بديهيّة أن مشاهدتَه ليست كما القراءة عنه، من المهم التأشير إلى ما أخبرت المخرجة، الباحثة اليهودية الإسرائيلية الدؤوبة، كاتب تقرير "هآرتس"، قبل نحو عام، أنها ابنة ناجييْن من المحرقة النازية، ونشأت في منزلٍ من دون ذاكرةٍ تاريخيةٍ فوتوغرافيةٍ، وأن المواد الفيلمية والفوتوغرافية المنهوبة "ليست لنا"، وهي مواد ثقافية وتاريخية للشعب الفلسطيني، ولا بد أن تعود إلى أصحابها.
أنفاسُ تعاطفٍ مع الشعب الفلسطيني كثيفةٌ في الفيلم، المعنيّ أساسا بتظهير فداحة ما تمارسه إسرائيل من "إخفاءٍ" لهذا الشعب، عندما تنهب ذاكرتَه. والجميل توثيقيا وسينمائيا في عمل رونا سيلع هذا أنه يأتي على وقائع عمليات سطوٍ على أرشيفاتٍ فلسطينية، من شهودها غالبا. وهي تنوّه بأهميةٍ كبرى لما أنجزه مصوّرون فلسطينيون روادٌ (خليل رصاص مثلا)، سرق المحتلون أعمالهم. وتضيء على سرقة مواد مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت. ولكل لقطةٍ في الفيلم قيمةٌ بالغةٌ، لندرة كثيرٍ منها، ولما تنطق به من حياةٍ كانت في مطارح فلسطينية عديدة ازدانت بأهلها. وتسمع، أنت المشاهد، سيلع، (من دون صورةٍ لها) تتحدّث عن طردٍ واقتلاعٍ وتراجيديا (هذه مفرداتها)، عن عمل المحتل من أجل "السيطرة على كتابة التاريخ"، وعن حيواتٍ فلسطينيةٍ أُخفيت، لرغبةٍ إسرائيليةٍ رسميةٍ في إعادة كتابة الماضي. وعن قرية عاقر التي هجّر سكانها وطُردوا، (أسكنت المخرجة فيها عائلة والدتها)، وعن مهاجرين يهودٍ يقيمون على أنقاض الكيان الفلسطيني في حيفا وغيرها، وعن نهب هيئاتٍ عسكريةٍ "بصورةٍ منهجيةٍ مدروسة" صور بلا عدد، منها من ألبومٍ (مذهلٍ كما تقول) لعائلة النشاشيبي، وأخرى من جيب عربيٍّ تم قتله في باب الواد في القدس. ويجول الفيلم في مخيمات لاجئين في فلسطين والأردن ولبنان، بروحيةٍ مسكونةٍ بأسىً خاص، توحي بالخسران والفقد. ويجول أيضا في معسكراتٍ للمقاومة الفلسطينية. وذلك كله بعد تقديم صور عتيقة لمستوطنين يهودٍ تؤشّر إلى "الكينونة الصهيونية" الأولى، والتي تخترقها، من دون انتباهٍ، الكينونة الفلسطينية أيضا، بحسب رونا سيلع.
من بين أشرطةٍ مسروقةٍ، محفوظةٍ في خزائن جيش الاحتلال الإسرائيلي، أظهرت المخرجة مقاطع منها، فيلمٌ اسمه "النداء العاجل"، أنجزه الرسام الراحل إسماعيل شموط قبل أزيد من خمسين عاما، وآخر لفتاةٍ اسمها زينب شعث تغنّي بالإنكليزية مع الغيتار.. ومقاطع من أفلامٍ لقيس الزبيدي، وصور لهاني جوهرية وفلسطينيين آخرين انشغلوا بالسينما والثورة والمقاومة. وتحضر في الفيلم الناشطة في حماية الذاكرة السينمائية الفلسطينية، خديجة حباشنة، وتسأل: هل قدرُنا أن نكون معدومي الأسماء والوجوه..
هذا ما يلحّ فيلم الإسرائيلية، رونا سيلع، على أن يقاومه الفلسطينيون، وأن يستعيدوا أرشيفا غزيرا لهم منهوبا.