هذا التدخّل الخارجي في الانتخابات التركية
الاهتمام كبير جداً بالانتخابات التركية من كل الأطراف الإقليمية والدولية، وهناك سيناريو دائماً يكون أقرب إلى رغبات الأطراف الخارجية ومصالحها. وفي بعض الأحيان، يكون ممكناً التدخّل لتحقيق هذه النتيجة، وفي أحيان أخرى، هناك صعوبة كبيرة أو نتائج عكسية، ما يجعل هذه الأطراف تفكر أكثر من مرّة قبل الإقدام على أي شيء، وتحاول أن تزن نجاعة كل أسلوب من أساليب التدخل.
إذا ما أخذنا الولايات المتحدة مثالاً لفحص عملية التدخّل، نجد أن من الواضح للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة لا ترغب باستمرار الرئيس أردوغان، وترغب في وصول المعارضة التركية إلى الحكم، وهذا ما ظهر جلياً في قول للرئيس بايدن في ديسمبر/ كانون الأول 2019 لصحيفة نيويورك تايمز إنه لا بد من دعم المعارضة التركية عن طريق تشجيعها للفوز بالانتخابات، وليس عن طريق الانقلابات.
وبما أن الحديث هنا عن انتخابات 2023، فإن التدخل الأميركي بدأ مبكّراً جداً وفقاً لهذا التصريح، وبالتأكيد أكبر من ذلك، بناء على الخط التاريخي للعلاقات بين تركيا والولايات المتحدة. ولنكون أكثر تركيزاً يمكننا الإشارة إلى الفترة الأقرب للانتخابات في الشهرين الماضيين، حيث كان لقاء السفير الأميركي، جيف فليك، مع زعيم المعارضة التركية كمال كليجدار أوغلو، قبل أسابيع، سبباً مباشراً لانزعاج الرئيس أردوغان الذي صرّح تصريحات قوية عن عدم لياقة هذا التصرّف، وإن باب القصر الجمهوري لن يكون مفتوحاً أمام السفير، حيث اعتبر أردوغان لقاء الأخير مع زعيم المعارضة ومرشّحها للرئاسة قبل اللقاء معه إخلالاً بالأعراف الدبلوماسية. وعليه، لم يحضر السفير الأميركي الإفطار الرمضاني الذي نظمه الرئيس أردوغان للسفراء الأجانب في مقرّ حزب العدالة والتنمية.
الولايات المتحدة لا ترغب باستمرار رئاسة أردوغان، وترغب في وصول المعارضة التركية إلى الحكم
وكان واضحاً أن هناك استمراراً للتشدّد في الملفات الخلافية بين الطرفين مثل التسويف في عملية إتمام صفقة طائرات إف 16، بالرغم من عدم وجود أي عوائق مشابهة لما هو عليه الحال في صفقة طائرات إف 35 التي جرى إخراج تركيا منها بسبب حصول تركيا على منظومة إس 400 الدفاعية من روسيا، كما أن تقارير الخارجية الأميركية استمرّت في انتقاد سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية والحركة القومية التي يقودها الرئيس أردوغان.
وذكرت صحف تركية معلومات عن قدوم خبراء أميركيين في الإعلام الجديد إلى تركيا لدعم المعارضة في تقنيات الوصول إلى أكبر عدد من الناخبين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي السياق، كان توالي وتسابق أغلفة المجلات والصحف الغربية، مثل الإيكونوميست وواشنطن بوست ودير شبيغل، الأسبوع الماضي في عرض صور سلبية للرئيس أردوغان، جالساً على عرشٍ يعلوه هلال مكسور أو تشبيهه ببوتين وتصوير استمراره في الحكم على أنه وصفة للفوضى ودعوة الناخبين إلى التصويت لمرشّح المعارضة، تدخّلاً واضحاً من هذه المنافذ، ومن يقف خلفها، في محاولة التأثير على الانتخابات التركية. لا يوجد تفسير منطقي لاستمرار مثل هذه الأساليب في ظل التجربة المعروفة للنتيجة العكسية التي تحقّقها، إذ لا ينظر الناخب التركي إليها بإيجابية، كما أن كوادر حزب العدالة والتنمية والحركة القومية يستخدمونها دليلاً على ضرورة مواجهة الإرادة الخارجية.
لم يلحظ وجود تغطية إعلامية عربية سلبية ملموسة تجاه الانتخابات في تركيا كما في 2018، حيث كانت علاقات تركيا متوتّرة مع بعض الدول العربية
على الجانب الأوروبي، كان التدخّل الأبرز ما تحدّث عنه وزير الداخلية التركي سليمان صويلو عن جلوس نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري والنائب في البرلمان أونال تشيفيك أوز مع سفير أوروبي، يُعتقد أنه الألماني، لأخذ رأيه في مخرجات اجتماعات الطاولة السداسية في تركيا ومناقشة عدة مواضيع معه، مثل عدد نواب البرلمان وتأثير الحرب في أوكرانيا على الانتخابات في تركيا وآليات الحصول على أصوات المواطنين من أصول كردية في تركيا وما إلى ذلك.
وميدانياً كانت هناك مضايقات بسيطة لانتخابات الأتراك في الخارج، مثل ألمانيا، حيث جرى رفض فتح مزيد من مراكز الاقتراع، كما هاجم أنصار لحزب العمال الكردستاني بعض أماكن الاقتراع، حيث من المعروف أن النسبة الكبرى من الأتراك في الخارج، وتحديداً في أوروبا، يصوّتون لصالح أردوغان وحزب العدالة والتنمية. وعلى كل الأحوال، كان الموقف السلبي في أوروبا هذه المرّة أقل حدّة من انتخابات 2018، عندما منع وزراء أتراك من اللقاء بالجاليات التركية في عدة دول أوروبية، منها هولندا وفرنسا.
على الجانب العربي، لم يلحظ وجود تغطية إعلامية سلبية ملموسة تجاه الانتخابات في تركيا كما هو الحال في 2018، حيث كانت علاقات تركيا متوتّرة مع بعض الدول العربية. ويمكن تفسير حالة الصمت الجارية بعاملين أساسيين: أولاً، المصالحات التي بدأتها تركيا منذ عامين مع عدة دول عربية، والتي أحدثت مناخاً حوارياً وتفاهماً على قضايا عديدة، ما أدّى إلى تقليل التوتر وتوقع استمرار صفحة جديدة إيجابية من العلاقات. يتعلق الثاني بصعوبة التنبؤ بنتيجة هذه الانتخابات هذه المرّة بسبب التنافس الشديد بين الطرفين. وبالتالي، قد يكون تقدير الموقف حتى لدى الراغبين بعدم استمرار أردوغان هو الترقّب وانتظار النتيجة وعدم المخاطرة بأي موقفٍ مسبق قد يكون له أثره السلبي.
أصوات من العالم الإسلامي من شخصيات ومؤسّسات ترى في أردوغان شخصية تتجاوز حدود تركيا، وترى دعمه واجباً عليها
وختاماً، يبقى الموقف الأميركي الذي يعرف ضمناً أنه لا يرغب باستمرار رئاسة أردوغان وحكومته غير متبنٍّ أي سياسة رسمية خشنة معادية علناً لأردوغان في ملف الانتخابات، وهو ما يجعل الأطراف الأخرى الأقل قوةً في أوروبا أو غيرها أقلّ تشجعاً لانتهاج أي موقف عدائي والاكتفاء بآليات التحريض الناعمة، والتي تنسجم مع المحدّدات التقليدية للعلاقات التاريخية لهذه الدول بتركيا.
وهناك أصوات من العالم الإسلامي من شخصيات ومؤسّسات ترى في الرئيس أردوغان شخصية تتجاوز حدود تركيا، وترى دعمه واجباً عليها، وأصدرت بيانات أو مواقف تحث فيها على دعم أردوغان. غير أن لا تأثير لهذه الأصوات يذكر على الناخب التركي، وهي تستخدم خطاباً يدلّ على عدم معرفتها بالسياسة التركية، وأحياناً تستخدمها المعارضة التركية في سياق سلبي.
على كل حال، يمكن القول إن المشهد الخارجي في الانتخابات والتحريض الخارجي يصبّ في صالح الرئيس أردوغان، بالنظر إلى النظرة السلبية الجمعية من الشارع التركي لفكرة التدخل الخارجي. ومع ذلك، لا تحظى العوامل الخارجية بحيز واسع في ذهن الناخب التركي، على غير حال العوامل الداخلية المتعلقة بالاقتصاد والمشاريع والروح الوطنية والأمن والهوية وغيرها.