هجوم البرهان أم مسرحية جديدة إلى الخارج؟

11 نوفمبر 2022
+ الخط -

خرج رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الفريق عبد الفتاح البرهان، أخيرا، بحديث شغل الناس في داخل السودان وخارجه، فقد أطلق، على غير المعتاد، جملة تحذيراتٍ خصّ بها حزب المؤتمر الوطني (الحاكم سابقا) والحركة الإسلامية من مغبة "التخفّي وراء الجيش"، قائلا "نحذّر من يريدون التخفّي وراء الجيش، ولنا كلام خاص للمؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية، نقول لهم: أبعدوا وارفعوا أياديكم من القوات المسلحة". ونفى موالاة الجيش للحركة الإسلامية قائلاً: "الذين يتهمون الجيش بموالاة بعض الأحزاب نقول لهم: الجيش ليس له فئة أو حزب، ولن يدافع في يوم من الأيام عن فئة أو حزب". زاد على ذلك أن "القوات المسلحة لن تسمح لأي فئةٍ أن تعود من خلالها، سواء المؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية أو غيره. نحن جيش السودان".

لا جديد في المفردات التي ساقها البرهان في خطابه، إذ كان قد أكد عليها غير مرّة إن لا مكان لـ"لمؤتمر الوطني" الذي حكم البلاد نحو 30 عاما في أي حديث عن المستقبل السياسي في السودان. وكرّر قوله عن انحياز الجيش للثورة وللشباب من الثوار. وفي الحالين، جاءت أفعاله منافيةً تماما، بل وبعيدة كل البعد عن قوله المكرّر والمعاد، فالثابت أن إنقلاب البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 قد توّج محاولات إعادة "المؤتمر الوطني" بوضع اليد وبالقوة العسكرية. وبأمر من البرهان وموافقته، بصفته رئيسا للبلاد، سمحت الأجهزة الأمنية في البلاد بعودة قيادات "المؤتمر الوطني" المطلوبين للعدالة، والتي هرب أغلبها إلى تركيا، وعادوا إلى ممارسة نشاطهم السياسي علنا، وباسم "المؤتمر الوطني" كما يفعل رئيس "المؤتمر الوطني"، إبراهيم غندور، من دون أن يطاوله تهديد ووعيد البرهان. أما بالنسبة لانحيازه للثورة، فتحت بصره ومعرفته، ارتكبت مجازر بشعة وقتل بالرصاص الحي وعتاد حربي أكثر من 120 من الشهداء من الشباب، بعد الانقلاب الذي قاده.

الحكومة التي عيّنها البرهان تشطب كل يوم القرارات الثورية التي اتخذت بحق فساد "المؤتمر الوطني" وقياداته ومنسوبيه

واقع الأمر، يبدو أن لا أحد في الداخل السوداني يثق في حديث البرهان، لمفارقة أقواله أفعاله، ما نزع عنها أي قدر من المصداقية. إذن، من قصد البرهان بالرسالة، ولماذا الهجوم وبلا مقدّمات ولا حتى غياب السبب المباشر؟ يؤكّد واقع ما يجري في السودان أن البرهان والمجلس العسكري الذي تطلق عليه المعارضة اسم اللجنة الأمنية التي عيّنها الرئيس عمر البشير تقوم بعملها بشكل ممتاز، على صعيد إعادة الحكم القديم بوجه جديد. وتعزّز هذه الفكرة بالذات الاعتقاد بأن حديثه موجّه بكامله إلى الخارج إلى الإقليم والجارة مصر، السند الفعلي للبرهان، وبصورة أكثر تحديدا إلى السفير الأميركي وحكومة بلاده.

وإذ نربط الحديث بالواقع، لا تذهب التحرّكات السياسية التي تجري في الخرطوم للتوصل إلى حل سياسي للأزمة بعيدا عن كلمات البرهان. بمعنى أنه لو بدّل "المؤتمر الوطني" اسمه، وهو أمر ليس جديدا عليه، فإن قصة الهبوط الناعم الفكرة الأميركية الأولى تكون مكتملة الأركان. فاليوم هناك محادثاتٌ، قوامها بشكل رئيسي حزب الأمة وقوى الحرية والتغيير والحزب الاتحادي الأصل وحركات مسلحة في دارفور، مع العسكر بوصفهم "الممثل الشرعي والضامن للحركة الإسلامية". هذه المجموعة متفقة على الحوار منهجا ومتفقة على حتمية التغيير وفقا للصيغة الأميركية الإقليمية، بمعنى إشراك أوسع طيف سياسي، بمختلف مشاربه، يضم "المؤتمر الوطني" تحت اسم جديد، وهذه وصفة طرحت كثيرا من قبل، ومع هذه الأطراف نفسها إبّان حكم عمر البشير، فما يظهر تناقضا في خطاب البرهان وأفعاله يمكن وضعه في خانة فقه التقية المجرّبة، وأن يعيد إسلاميو السودان الضحك على الخارج مرة ثانية عبر فقه التقية، فقد نجح البشير من قبل من الضحك على المخابرات المصرية، وفي كسب ودّ القاهرة التي سوّقت بجدارة للانقلاب الإسلاموي في يونيو/ حزيران 1989.

كل ما تمخّض عنه الانقلاب هو عودة قيادات "المؤتمر الوطني" إلى كل مواقعهم في الدولة

البرهان الذي يحذّر "المؤتمر الوطني" والإسلاميين هو نفسُه الذي يكيل المدح لمبادرة الطيب الجد، الكادر الإخواني وعضو "المؤتمر الوطني" تحت مظلة التيار الإسلامي العريض. والثابت من الأفعال أن الحكومة التي عيّنها البرهان تشطب كل يوم القرارات الثورية التي اتخذت بحق فساد "المؤتمر الوطني" وقياداته ومنسوبيه، وتعيد الممتلكات المصادرة إلى أصحابها، بل وزجّ العضو الأكثر تأثيرا في لجنة إعادة تفكيك النظام البائد، المحامي وجدي صالح، في السجن، من دون توجيه تهمة صريحة له، بينما يفاوض البرهان الأعضاء الآخرين من اللجنة نفسها على الشكل الجيد للحكم في السودان.

ولافت أول تعليق من الحركة الإسلامية، بلسان القيادي في "المؤتمر الوطني"، أمين حسن عمر، على حديث البرهان، "أن البرهان يخضع للابتزاز من قوى سياسية، ولذلك تبرّأ من الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني". معلنا أن الحركة الإسلامية لن تكفّ عن إظهار دعمها الجيش "مؤسسة قومية ممسكة بالبلد". ومهما كان الرأي، تحذير البرهان، في حقيقته، موجّه إلى قوى الثورة من ثوار لجان المقاومة، والأحزاب اليسارية خصوصا، والتي تطالب بإعادة هيكلة الجيش وإبعاده عن السياسة، فقد خصّهم البرهان، في خطابه، بلغة مفصحة وبينة: "القوات المسلحة وقيادتها ظلّت تتعرّض لهجوم من بعض الفئات، ولن نتردّد في الاتفاق مع أي شخص يريد إنقاذ السودان، وسنضع يدنا في يده". ولخّصت هذه العبارة كل فكرة البرهان، فقد وضع يده على يد "المؤتمر الوطني" بما لا يحتاج لدليل وبرعاية دولية. والثابت، وبغض النظر عما قاله أو سيقوله، أن كل ما تمخّض عنه الانقلاب هو عودة قيادات "المؤتمر الوطني" الى كل مواقعهم في الدولة. وعاد من هرب في انتظار جولة حاسمة مع شارعٍ لا يزال متمسّكا بثورته.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.