هبة زقّوت وشيْماء صيدَم ومستشفى المعمداني
أنجز مركز خليل السكاكيني في رام الله، في العام 2001، مبادرة غايةً في الرّفعة، جمَع مقتنياتٍ وأغراضا لمائةٍ من أوائل شهداء الانتفاضة الفلسطينية، ووضَعها في مكعبّاتٍ زجاجيةٍ، وقدّم عن كل شهيد تعريفا موجَزا مع صورةٍ له، ونظّم لهم معرضا سمّاه "مائة شهيد ... مائة حياة"، تكريما لكل منهم، طافَ في عدّة مدنٍ عربيةٍ، عمّان، بيروت، القاهرة، المنامة، دبي، الدوحة، وغيرها. أتيح لصاحب هذه الكلمات أن يشاهدَه في أبو ظبي، وأن يكتُب عنه ما كتَب. أفيد بأن المعرض كان مقرّرا أن يُدرِج جميع شهداء الانتفاضة، غير أن تزايدَهم جعل المركز يحدّد مجال التكريم لأول مائة شهيدٍ مختارين من كل فلسطين. أتذكّر حذاء محمد الدرّة ومقلاع علاء بني نمرة وصورة جمال عبد الناصر لعمر عكّاوي (شهيد من الأراضي المحتلة في 1948). ولا أنسى مشغولاتٍ يدويةً (لشهيدة) وقبّعة عاملٍ وكرة قدم ودفترَ حسابٍ لشهداء آخرين. قالت، في حينه، مديرة المركز، عائدة العايدي، إن الشهداء الفلسطينيين ليسوا أرقاما، لكلٍّ منهم حاجاتُه وطموحاتُه وخصوصيّاتُه، وأفراحُه وأحزانُه، وبؤسُه وفقرُه أيضا. وذكرت إن الهدف من تنظيم المعرض "كسر الخدر المتسلّل إلى داخلنا عبر إحصاءات موت الفلسطينيين اليوميّة".
تلك فكرةٌ باهرة، أنّى لكل شهداء فلسطين، منذ بدأت مدحلة القتل الإسرائيلية قبل أزيد من ثمانية عقود، أن نجتمع، نحن الأحياء الذين نجوْنا، قضاءً وقدرا، هناك، قدّام أغراضٍ لهم، فنُحدّق، مثلا، في ما طيّرته مقذوفات صواريخ حكومة جرائم الحرب الراهنة لمّا أسقطت حمم التمويت على الناس في غزّة ومخيّماتها ونواحيها، في بيوتهم، في الشوارع، في مدارس ومساجد ومستشفياتٍ لجأوا إليها. أمثلةً: شالُ فتاة منسيّ، علبةُ حليبٍ لطفلٍ فارغة، مخدّة لنومٍ مشتهى، مشط امرأةٍ متروك، طقم أسنان لكهل، إبريق شاي لأسرةٍ أُبيدت، حقيبة مدرسية، قلم حومرة، أي شيء. يا للدهشة، لو أن في وُسْع الفلسطينيين أن تتيسّر لهم قيادةٌ لديها الدّعة والثقة والقرار والمال والمشروعيّة، وتمضي في بناء متحفٍ كبيرٍ، بطوابق كثيرة، تحمي مقتنياتٍ وأشغالا وحاجاتٍ تخصّ الشهداء الذين ارتقوا إلى العلا، لمّا ماتوا في المستشفى المعمداني، وفي اعتداءاتٍ على حي الرمل ودير البلح وجباليا وكل أمكنة قطاع غزّة المنذور لتجريب نتنياهو ملكاتِه في توجيه دفّة القتل إلى أعدادٍ أعلى ثم أعلى من الفلسطينيين.
ولأن الذي قالوه في مركز خليل السكاكيني قبل 22 عاما منطقيٌّ، عن صعوبة تهيئة معرضٍ لجميع شهداء تلك الانتفاضة، ولأنه ليس في وُسعي، (وهل في وُسع أحد؟) أن أكسر كل الخَدر الذي نلقَى أنفسَنا فيه، ونحن ندقّق في عدّاد أرقام الشهداء الذين يتوالون، أنتقي هنا الأولى على الناجحين في أدبي الثانوية العامة في فلسطين، قبل نحو شهرين، شيماء أكرم صيدَم. أحرزت 99,6%، ثم قَتلها، قبل أيام، مُجرمون صهاينة في واحدةٍ من غاراتهم على مخيّم النصيرات في القطاع. ماتت مع ابنها، وهي حاملٌ في ابنٍ آخر. لم تُخبرنا النّتف التي نُشرت عنها إن كانت قد التحقَت بجامعةٍ للدراسة. استعدْنا صورََها في احتفال أهلها بها، بالنتيجة الممتازة لجُهدها في امتحانات الثانوية. رأينا وداعةً وصمْتا. رأينا أسئلةً مكتومةً عن مجهولٍ لا نعرفه، ولم تعرِف عنه الطالبة الفلسطينية الحاذقة. ... لو نجَت شيْماء، ماذا كانت ستقصّ لأولادها عن نجاحها المغدور؟
أختار رسّامة الإكليريك، هبة غازي إبراهيم زقّوت (1984)، استُشهدت هي وأحد ابنيْها. في لوحاتِها، الوفيرة فيما يبدو، كثيرٌ من النور، والضوء، والإشراق. ترسِم الطبيعة والقدس ومساجد وكنائسَ وقبابا بعيدةً وقريبة وأهلّة وأجراسا. هكذا مباشرة. لا تجرّب، ولا تختبر مدارس في التشكيل، ثمّة اتقانٌ وموهبةٌ ظاهران، بما توفر من أدوات الرسم وألوانِه في القطاع المحاصَر. تذهب، وهي المعلّمة في مدرسة، إلى إشهار فلسطينيّتها في الفنّ الذي درستْه وأحبّته. رسمت أمومَةً وأمّهاتٍ، وزهورا متفتّحة ريّانة، وأشجارا متجذّرةً وباسقة. تُرى، ماذا بقي من هذا كله؟ هل تركَت الصواريخُ الغادرةُ بعضا منه ليذكّرنا، فيما بعد، بامرأةٍ فلسطينية رسّامة، اسمُها هبة زقّوت، كانت تشتهي وقتا أطوَل لترسمَ أكثر؟.
أختار مستشفى المعمداني، أو نحو خمسمائة شهيد (من يضبط العدد والأسماء؟) ماتوا فيه لمّا ضَرَبه الأعداء. تنطق صوُرَه مبنيّا في 1882 بالأناقة. بناه تبشيريون إنكليز، تبع الكنيسة الإنجيلية، قبل تعرّضه للنهب والحرق والسرقة والتدمير في 1919 في الحرب العالمية الأولى، ليَصير له اسمُه الآخر، المستشفى الأهلي العربي. بعد الجريمة المشهودة التي يُنكر بايدن ونتنياهو مسؤوليّتهما عنها، من سيحمي حكاياتٍ فلسطينيةً كانت على أسرّته، وفي جَنَباته، وممرّاته، وحواليْه، وفناءاته، قبل أن تُصادَفَ رؤوسُ أطفالٍ مقطّعةٌ على أسطُحه، مثلا؟ من؟