هامش على الانتخابات الفرنسية

16 مايو 2022

شاشة كبرى في باريس تظهر نتائج نسب التصويت لماكرون ولوبان (24/4/2022/Getty)

+ الخط -

انتهت الانتخابات الرئاسية الفرنسية، كما توقع كثيرون، بفوز إيمانويل ماكرون على منافسته زعيمة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، بفارق معقول، وهذا خبر أفضل بكثير من فوز هذه السيدة، فالعالم قد يكون أكثر استقراراً مع عدم وجود رئيسة للجمهورية الفرنسية تحمل كل تلك الأفكار المتطرفة. لكن نسب الفوز وكواليس الانتخابات تحمل ملاحظاتٍ، فهذه هي المرّة الأولى التي تصل فيها مرشّحة اليمين المتطرف إلى تلك النسبة الكبيرة من الأصوات، ما يعني وجود مشكلة كبيرة ستواجه ماكرون في ولايته الثانية، فما حصلت عليها لوبان من أصوات يعدّها بعضهم نوعاً من التصويت العقابي ضده، خصوصاً مع وجود نسبة كبيرة قاطعت تلك الانتخابات تزيد عن 28%.
يرى متابعون كثيرون للشأن الفرنسي أنّ ماكرون ارتكب أخطاء كثيرة أدّت إلى ذلك، فسياساته النيوليبرالية ساهمت في زيادة معاناة قطاعات عديدة، واتضح هذا في تظاهرات السترات الصفراء التي كانت مصاحبةً لمعظم فترة حكمه، ولا تزال تلك المجموعات في حالة تأهب وغضب، وكثيرون منها يستعدون لموجة جديدة من الاحتجاجات.
ويرى اليمين المتطرّف، ومارين لوبان من رموزه، أنّ مساندة ماكرون أوكرانيا من الأخطاء التي تتوجب المحاسبة، فدائماً يرفع هذا اليمين شعارات الشأن الداخلي وتعظيم الهوية، ولذلك ترى لوبان أنّ من الأفضل الخروج من مشروع الاتحاد الأوروبي والانتباه إلى الشأن الداخلي، بالإضافة إلى أفكارها المناوئة لحرية التنقل الأوروبية أو التوافد على فرنسا. وبالطبع، تعدّ لوبان من أشد أعداء توافد اللاجئين على فرنسا، وتحمّل ماكرون زيادة أعدادهم. وهي التي لديها علاقة وطيدة بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وركزت في حملتها الانتخابية على انتقاد مساندة ماكرون أوكرانيا، ويذكّر حالها هذا بالعلاقات الوطيدة التي كانت بين بوتين والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. ويبدو أنّ لدى اليمين حنين بعضه لبعض مهما كان مختلفاً أو متقابلاً، فهم يتحدثون اللغة نفسها. وترى لوبان أيضاً أن أزمة المناخ ليست أولوية، وأن هناك مبالغة في الأحاديث والأبحاث عن الاحتباس الحراري. ولها مواقف مناوئة للطاقة النظيفة والمتجدّدة أقلقت دوائر أوروبية عديدة.

اليسار الفرنسي مفكّك بشكل كبير، بالإضافة إلى تدني شعبية الأحزاب السياسية التقليدية أو السياسيين التقليديين

وترجّح تحليلات تحالف مارين لوبان مع اليميني الأكثر تطرّفاً إريك زيمور، ليكونا كتلة نيابية معرقلة داخل الجمعية الوطنية (البرلمان)، ولكن بعض مسؤولي الحملة الانتخابية قالوا إنّ الوقت مبكر للحديث عن تحالف انتخابي بينهما، ويعتقدون أن الخلاف بينها وبين زيمور أكبر من أن تجري معالجته، فهو خلاف شخصي في الأساس حول زعامة التيار. وقد دعا زيمور أنصاره إلى مساندة لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات، لمواجهة رجل أدخل أكثر من مليوني لاجئ إلى فرنسا، على حد تعبيره. ولم تبد لوبان ترحيباً كبيراً بالخطوة، وإن كانت قد أشادت، في بعض المرّات، بزيمور، واعتبرته ممن يؤمنون بفرنسا وسيادتها وعودتها إلى الصدارة، وإن لم تغلق تصريحاتها الباب تماما أمام فكرة التحالف معه في الانتخابات التشريعية.
فرغم الخلافات الشخصية وصراع الزعامة، هناك نقاط كثيرة مشتركة بينهما، فكلاهما معاديان للاتحاد الأوروبي وللمهاجرين، ولديهما مواقف معادية للعرب والمسلمين بشكل عام، وإن كان زيمور أكثر تطرفاً وشعبوية وجموحاً في تصريحاته العدائية.
على الجانب الآخر، رغم دعمه ماكرون في الجولة الثانية، لا يرى جان لوك ميلينشون أنّه من الممكن أن يتحالف مع ماكرون في الانتخابات التشريعية، بل يرى أن هذه الانتخابات فرصة كبيرة لإحداث التوازن في مواجهة ماكرون، وإقامة فكرة الجمهورية السادسة ونظام حكم جديد لفرنسا، أوعلى أقل تقدير إمكانية فرض سياسات أكثر اشتراكية، ولكن محللين يشكّكون في إمكانية حدوث ذلك، فاليسار الفرنسي مفكّك بشكل كبير، بالإضافة إلى تدني شعبية الأحزاب السياسية التقليدية أو السياسيين التقليديين، سواء من اليمين أو اليسار، وهذا ما يعطي مساحةً أكبر للخطاب الشعبوي.

يؤثر تغيير الإدارة الفرنسية على دول الشرق الأوسط، كما هو الحال بالنسبة لتغير الإدارات في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو ألمانيا

وترى قيادات عمالية أن الانتخابات الفرنسية كانت، في الأساس، اختياراً بين السيئ والأسوأ، ويذكّرنا هذا بفكرة "عصر الليمون" على المرشّح الأقل سوءاً التي نطبقها أحياناً في بلادنا العربية. وأعلنت نقابات واتحادات وتنظيمات يسارية عن إمكانية بدء موجةٍ جديدةٍ من الاحتجاجات بعد فترة وجيزة من فوز ماكرون بعد إعادة انتخاب الرئيس، لتذكيره بضرورة تحسين أحوال العمّال وظروف العمل وسط الأزمات الاقتصادية المتصاعدة، ولا تزال تظاهرات "السترات الصفراء" تحدّياً كبيراً لماكرون في فترته المقبلة.
لكن، هل يعني فوز ماكرون أو لوبان شيئاً كبيراً لنا في الشرق الأوسط؟ نعم، فالعالم كله متصل بعضه ببعض، وها نحن نرى تداعيات الأزمة الأوكرانية على العالم كله، وما نعايشه في مصر من آثار سلبية في الاقتصاد، وعايشنا من قبل تداعيات تغيير الإدارة الأميركية وقت تولي ترامب منصب الرئيس، كما أن فرنسا هي سادس اقتصاد على مستوى العالم، ولها مصالح كثيرة، وذات تأثير في دول عربية وأفريقية عديدة، بالإضافة إلى الحدود الممتدة حول العالم كبقايا المستعمرات القديمة. ولذلك يؤثر تغيير الإدارة الفرنسية على دول الشرق الأوسط، كما هو الحال بالنسبة لتغير الإدارات في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو ألمانيا.

يتوقع كثيرون أنّ فترة حكم ماكرون الثانية ستكون أقل استقراراً عن سابقتها

صحيحٌ أنّ قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ليست من أولويات ماكرون، فالمصالح العسكرية والاقتصادية هي الأساس في التعامل مع دول الشرق الأوسط، لكن بشكل عام، فوز ماكرون أفضل من فوز مرشّحة اليمين المتطرّف، فاليمين أكثر عدوانية للعرب والمسلمين، بالإضافة إلى دعمه الصريح الديكتاتوريات الشرقية. وبشكل عام، يدعم اليمين بعضه بعضاً بشكل إيجابي أو سلبي، فاليمين القومي أو الرأسمالي يدعم بعضه بعضاً بشكل مباشر، أما أطراف اليمين أو الشعبوية المتقابلة فيدعمون بعضهم بشكل غير مباشر، عن طريق تغذية الكراهية ضد الآخر، مثل اليمين الديني الذي يستغلّ الخطاب المتطرّف اليميني الأوروبي والعكس، أو أقصى اليسار الذي يستغل جموح أقصى اليمين، ويقدّم خطاباً أكثر شعبوية.
ويتوقع كثيرون أنّ فترة حكم ماكرون الثانية ستكون أقل استقراراً عن سابقتها، لكن ملاحظ ومعروف أيضاً أنّ تغيير رأس السلطة ليس مشكلة كبيرة في الدول ذات الديمقراطيات الراسخة، فتداول السلطة وتنافس الأحزاب على السلطة أمر معتاد لا يؤدّي إلى هدم الدولة كما يزعمون في بلادنا. ولافتٌ أيضاً أنّ أحزاب المعارضة تدعمها "الدولة"، فأحزاب المعارضة جزء من النظام السياسي للدولة، ولا يجري اعتبارها أعداء للوطن كما يحدث في بلادنا العربية، ولذلك هناك نسبة على الأحزاب تخطيها في الانتخابات، حتى تستطيع الحصول على دعم من الدولة لتغطية نفقاتها وسداد رواتب الموظفين ومصروفات الدعاية.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017