07 نوفمبر 2024
هؤلاء "الموهوبون في الأرض"
أكثر من ثمانين فنانا، ممثلا ومخرجا وسيناريست ومغنيا وملحنا، نجوما وغير نجوم، استعرض الكاتب والصحافي بلال فضل عوالمهم وفضاءاتهم وقصص حكاياتهم، في برنامجه اليومي "الموهوبون في الأرض" على شاشة تلفزيون العربي، في موسم رمضان الحالي، وموسمي العامين الماضيين. ومن كثيرٍ شائق في البرنامج (14 دقيقة) أن موهوبا حاذقا هو من يتحدّث ويحكي عن أولئك الموهوبين، فأنت عندما تسمع البرنامج، لا تنصرف حواسّك إلى الفنان المتحدّث عنه، أو الفنانة المتحدث عنها فقط، بل أيضا إلى الموهوب الذي يبسط حكيه المسترسل بتلقائيةٍ بديعة، فيها تباسطٌ محبّبٌ مع المشاهد المستمع، وهذه كفاءةٌ لا تتيسر لأي أحد. يُتقن بلال فضل انتقالات سرده من جزئيةٍ إلى أخرى، من تفصيلٍ إلى آخر، من حدّوتةٍ إلى أخرى. ويحافظ، في الوقت نفسه، على الإيقاع العام لـ "البورتريه" الذي ينسجه عن الموهوب أو الموهوبة اللذين يجعلهما فضل شديدي القرب منك، عندما يدردش معك وينظر إليك، ويتحدّث إليك، بانفتاح صديقٍ يُجالسك، فتُنصت إليه، بانشدادٍ إلى قصصه. لا ملل أو سأم، لأنه لا تكرار ولا إسهاب، ولا تطويل مضجراً، لا شيء من عيوبٍ مثل هذه، معهودةٍ في برامج يتوهم فيها المذيع التلفزيوني قدرة في شخصه الكريم على جذب المشاهدين إلى ما يثرثر.
منذ أحمد زكي، في أولى حلقات "الموهوبون في الأرض"، في موسم رمضان 2015، وصولا إلى مختتم موسم رمضان الحالي، حضر في البرنامج توفيق الدقن وتحية كاريوكا ومديحة كامل وفريد شوقي وعماد حمدي وعادل إمام وعمرو دياب وحسن حسني وعبد الحليم حافظ وتوفيق صالح ويوسف شاهين وسعيد صالح وصلاح السعدني وصلاح قابيل ومحمود مرسي وسعاد حسني وأم كلثوم وعبد المنعم إبراهيم ونجاح الموجي وسمير غانم .. وآخرون كثيرون، بالكاد تُصادف من غير المصريين بينهم واحدا أو اثنين، وقد حضرت فيروز في حلقةٍ حسنةٍ قبل أيام. وهذا طبيعي، بالنظر إلى خبرة بلال فضل مع المجتمع الفني الواسع في مصر، واختصاصه بكلّ من فيه، عدا عن أن حضور فناني مصر ونجومها، روّادا وغير روّاد، في الذائقة والوجدان العربيين، وفي الحياة العربية عموما، لا يحتاج إلى كلامٍ كثير. وإنْ كان في الوسع أن يكون مسمّى البرنامج الذي تحتفي به هذه السطور غير الذي يحمله، فالأرض ليست مصر فقط، وهذا مشهور ومعلوم، كما أن التلفزيون الذي يطلّ علينا منه هؤلاء الموهوبون الجميلون، اسمه "العربي". ولعل في وسع الزميل بلال فضل أن يحاول اختبار قدراته في استكشاف تجارب موهوبين عرب، في الخليج والشام والمغرب العربي، أدّوا وأبدعوا، وحضروا وأجادوا، وناوشوا الحياة وتعبوا.
من أهم ما تشتمل عليه حكايات بلال فضل عن الموهوبين الفنانين أنها تلتقط فيهم حسّ الكفاح وإثبات الذات، ومغالبة أوضاع العيش، والسعي إلى حياةٍ كريمة. يكدّون ويتعبون، وتصادفهم المقادير بخيباتٍ ونوباتٍ من سوء الحظ أحيانا، ويواجهون المتاعب، ويحاولون، وتتوفر لهم الفرص والمصادفات، فيختبرون إمكاناتهم وما أودعه الله فيهم من مواهب. البحث عن راتب جيد، وعن عقود عمل، وعن أجور جيدة أو معقولة، وتوفير موارد الرزق لأسرهم، هذه كلها تفاصيل جوهرية في مسيرة كل موهوب. كان توفيق الدقن مثقلاً بمسؤولياتٍ والتزاماتٍ بشأن أبنائه وأشقائه، كان يقول إنه "فاتح ست بيوت"، كان "يناضل" (تجوز المفردة؟) من أجل أن يعيش بكرامة، ومن دون تبخيس موهبته التي أراها استثنائية. لم نكن معنيين بحياة هذا الفنان القدير حقا، كيف هي، وكيف يعيش، ونحن نتفرّج عليه في أفلام كثيرة، كان فيها شرّيرا ظريفا، فظل يقيم في ذاكرتنا اسما بديعا في فن "التشخيص" العربي.
إضاءاتٌ إنسانيةٌ شفافة على أولئك الموهوبين الذين تنوعت قصص تفوّقهم وتميزهم، حضرت في البرنامج، كما أتقن بلال فضل الحكي عنها، حرّة وطلقة، غالبا ما تكون باهرة في تفاصيلها الصغرى. تأخذنا في كل مساء في رمضان إلى شوق إلى زمنٍ مضى، إلى شاشات السينما والتلفزيون، لما كنّا نتوسل ما يتيسّر من بهجة، في فرجة فرحة. رحم الله من رحل من أولئك "الموهوبين في الأرض"، وأطال الله أعمار الباقين ومتّعهم بالصحة.