هؤلاء الفلسطينيون في العراق

25 ديسمبر 2017
+ الخط -
صار في الوسع أن يُغبط اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، فقد أصبح لهم عدد معلوم، ومعلن، ورسمي، فيما أشقاؤهم في العراق محرومون من هذه النعمة. بل بالتزامن، قبل أيام، مع إشهار أن أولئك في لبنان أقل من 180 ألفاً، أعلنت حكومة بغداد، بموجب قانون صودق عليه، عن تجريد الفلسطينيين المقيمين بين ظهرانيها من مزايا كان قد أقطعهم إياها مجلس قيادة الثورة الغابر والمخلوع، ما أشاع بعض استهجانٍ دفع الحكومة إلى إشهار توضيح في هذا الخصوص أمس، لم يكن هناك ما يدعو إليه، فالقانون المعلن، والذي صوّت عليه البرلمان العراقي، ليس ألفية ابن مالك حتى يحتاج إلى الشرح. بينما الملتبس في القصة كلها يتعلق بهؤلاء الناس، لا بمزايا كانوا يرفلون فيها ثم استلّها منهم نوابٌ أشاوس في هذا البرلمان، لما حشر غيارى منهم، على العراق وناسه، ذلك القانون الذي يخص الفلسطينيين بين حزمةٍ من قوانين موروثة من زمن "البعث" وصدّام حسين أرادوا شطبها. الالتباس هو في أن المعلوم عن هؤلاء البشر شحيح، فضلا عن أنهم منسيّون، ولا يحظون بأي اكتراثٍ بهم، فمن ذا يعرف بالضبط عددهم؟ ما هي أوضاعهم بعد الذي ذاع عن فرار كثيرين منهم من منازلهم، وإلى تهجيرٍ إلى مخيمات على الحدود، وتبرّع البرازيل وكندا وتشيلي (والسودان؟) ودول أخرى باستقبال أعداد منهم؟ كانوا موضوعا في موسم إخباري عنهم، قبل أحد عشر عاما، ثم ذهبت سيرتهم إلى الأرشيف، وها هي مؤسسات السيادة في العراق، البرلمان والحكومة والرئاسة، تفطن إليهم، فتنزع عنهم الإعفاء من رسوم دخول المدارس والجامعات، ومن تأمين العلاج المجاني، ومن الحق في التعليم الإلزامي، وغير ذلك مما سميت مزايا مُنحت لهم.
ليست منظمة التحرير التي قامت أصلا، في 1965، للعناية بأمور الفلسطينيين في الشتات، ثم حازت صفتها ممثلا لهم، ليست في عافيةٍ تؤهلها للاكتراث بمن تبقّوا من فلسطينيين في العراق، يتردّد أنهم الآن نحو سبعة آلاف شخص، بعد أن كانوا قبل الاحتلال الأميركي نحو أربعين ألفاً. وليس لهم أي مظلةٍ سياسية أو إغاثية، ومعلومٌ أن "مكابرة" عراقية عتيقة رفضت أن يكون لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أي مسؤوليةٍ تعين الفلسطينيين الذين تتالى لجوء دفعاتٍ منهم إلى العراق، بعد نكبة 1948، بدعوى أن البلد المضيف نفسه أهلٌ لهذا الأمر. ولكن، هل يجوز أن يعمد واحدُنا إلى سوء الظن بالنخبة الحاكمة في العراق الراهن، فيُقال إن ناسا منها أرادوا ممارسة مرجلةٍ على الفلسطينيين المستضعفين الذين أبقتهم الأقدار في هذا البلد؟ يُيسر الأرشيف القريب أسبابا على مقادير من الوجاهة في قولٍ كهذا، فلم يتناقص عدد المنكوبين الفلسطينيين هناك إلى المدى الفادح، إلا بعد أن أعملت فيهم مليشياتٌ عنصريةٌ وطائفيةٌ أحقادها فيهم، بزعم صدّاميتهم. وليس منسيّا بعد أن 530 شخصا منهم قضوا في جرائم عنفٍ ارتكبتها مليشيات حزب الدعوة وأمثالها، عدا عن آلافٍ احتجزوا واعتقلوا في سجونٍ أميركية وعراقية، وذلك كله في أجواء تحريضٍ مخيفة، مورست في عام 2006، كان من تفاصيلها طرد أكثر من ثلاثمئة عائلة فلسطينية من منازلها في بغداد، وأن "سرايا يوم الحساب" خيّرت كثيرين، في رسائل معلنة، بين القتل أو ترك المناطق التي يقيمون فيها.
نتذكّر أن المرجع السيستاني أفتى، متأخرا، بتجريم التعرّض للفلسطينيين في البلاد، وأن زوبعةً كلامية زاولتها منظمة التحرير في تلك الأثناء، وأن الرئيس (الراحل) جلال طالباني وعد الرئيس محمود عباس بالاهتمام بما كان جاريا.. هذا كله في البال، ومعطوفا عليه أن خيام نكبةٍ جديدةٍ لاذ بها أولئك الناس في ساحة نادي حيفا في بغداد، وأن مخيما أقيم لهم قريبا من الأردن، وآخريْن قرب سورية. ولا تعني تلك الوقائع غير أن ما أقدم عليه البرلمان والحكومة والرئاسة في العراق بشأن الفلسطينيين إنما هو موصولٌ بها، كأن "التجربة المرّة" هذه ما زال في تغريبتها فصولٌ وفصول، مما يمكن أن يستجدّ ويطرأ، إذا ما عنّ لملتحقين بنوري المالكي (مثلا) أن يجترحوا لأنفسهم مطارح في ذرى المرجلة.. المتورّمة التافهة لا ريب.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.